تتحرّك سامية، في غرفة النوم، «مثل من يمشي على بيض». تتساءل عن الحالات البشريّة التي ينطبق عليها هذا المثل. حالتها الآن. تحسب حساباً لكلّ نأمة تصدر عنها، كي لا تستيقظ أمّها قبل خروجها، وقبل مجيء جارتها أم فارس. تنزل أم فارس، عادة، من شقّتها في الطابق الثالث لتجلس مع أمّها شبه العاجزة، ريثما تعود، هي سامية، من انشغالاتها. وعلى هذه الانشغالات أن تكون ملحّة، على الدوام. أمّ فارس، إذاعة الحارة، كما يسمّونها في السرّ. في كل مرّة تطلب مساعدتها، عليها أن تخترع سبباً خطيراً. مثلاً، موعدٌ عند طبيبٍ، إنجاز معاملة تحتاج بصمتها، أو وداع صديقات يهاجرن. واليوم، ثمّة صديقة أخرى ستغادر البلد، فجرَ غدٍ! رغم ذلك، أمّ فارس طيّبة وخدومة. تفكّر سامية، وهي ترتدي ثيابها، وتضع المكياج. تفرد شعرها المصبوغ والْمُسَشْوَر. في أغلب الأيّام، تجمعه خلف رأسها مثل كعكة، وتثبّته بملقط، وهي تغوص في أعباء المنزل، وأعباء أمّها.
منذ الصباح، تختلط لديها المشاعر، والأفكار: ذكريات الماضي وأحداثه؛ أخوتها وأخواتها الذين تركوا لها وحدها عبء أمّهم، ولا يكاد أحدهم أو إحداهنّ يزورها كما يجب، فرحها بلقاء جمال، عند الساعة الثالثة، والآن خشيتها من استيقاظ أمّها، فأقسى ما يحدث للعجوز هو خروجها من البيت.
بغتة، ينتشلها صوت أمّها من شرودها، ويحطّ بها على بلاط الغرفة حيث تقف. تسألها:
• خير، إن شاء الله! إلى أين أنتِ ذاهبة؟
• كأنّك لم تنامي؟
• يكفيني ما نمت. ولكن إلى أين تذهبين؟
تجيب سامية، من دون أن تنظر في وجه أمّها:
• هذا الصباح، أخبرتك أنّني سأخرج!
• لا، لم تقولي لي!
• بلى، قلت لك.
• لا، لا، لم تقولي لي.
• أنت هكذا دائماً! تنسين ما لا يروق لك.
على مضض، تقول أمّها:
• حسناً، كما تريدين!
في العادة، ردّ أمّها الأخير يطيّر صوابَها. فأمّها تعني به أنّها على صواب، لكنّها تتنازل وتصمت، إزاء كذب ابنتها أو عنادها، درءاً لانفجار معركة غير محسوبة. لكنْ على سامية، هذه اللحظة أيضاً، ألا تنسى البيض تحت قدميها، حين تكلّمُ أمّها. لا تريد لمزاجها مزيداً من التعكير. فلتصمت، ولتخرج بسلام.

مارك شاغال ــ «زوجا برج إِيفل» (محفورة على خشب ـ 1938-1939)

تتأكّد، أمام المرآة، من أناقتها، ومن أنّ كلّ شيء على ما يرام. الطوق حول جيدها، والأسورة في معصمها، والقرطان يتدلّيان من أذنيها الصغيرتين. تتأمّل نفسها في المرآة. لم تستطع المساحيق طمس التجاعيد حول العينين، أو في الرقبة. لطالما حاولت أن تألفها، وتستسلم راضية للزمن يحفر فيها تجاويفه البائسة. يبدو الأمر متعذّراً. بل إنّها، حتّى الساعة، لا تصدّق أنّ ما تراه في المرآة هو وجهها حقّاً. روحها ما زالت تخفق بالصبا وزهوة الشباب. فلا تقتنع بما آل إليه جسدها، أو تتقبّله ببساطة. رغم قصر قامتها، كان جسدها متناسقاً، وبطنها ضامراً، لم تكن تحتاج إلى مشدٍّ، كهذا الذي تلبسه، يضيّق عليها أنفاسها. بطنها الآن متكوّر ينفخه الخواء. لم ولن يخصب يوماً. لم تكن جميلة. تعترف. إنّما ليست بشعة بالطبع. عيناها فيهما وسع، بنيّتان، كحّلتهما بأناة، وحاجباها متوازنان، تساقطت بعض شعيراتهما، في الزمن. لكنّها حين خروجها، تعيد تشكيلهما بقلم الكحل. والمسكرا تنقذ رموشها من الوهن. تتأمّل ثدييها، أجمل ما فيها، ما زالان يتكوّران باكتناز نَضرٍ، يتصدّرانها بعنفوان، يتحدّيان الزمن، ويتشفّيان به. والآن، تقويرة قبّة الفستان تفسح لأعلاهما بالبروز بما يكفي للغواية. ودّت أن تحتضنهما بكفّيها تشكرهما، لكنّ أمّها تراقبها. تتأمّل فستانها بأرضيّته الورديّة الفاتحة، تزركشها أزهار حمراء كبيرة، وغصينات خضراء، بدا قطعة ربيع وهّاج. وعلى شفتيها السميكتين، وضعت أحمر شفاه غير صاخب. ابتسمت، وهي تتخيّل كيف سيطلق جمال صفيراً طويلاً إعجاباً بالفستان الجديد وبها كلّها، ثمّ وهو يحضنها ويشمّها، على مهلٍ، كعادته. تذكّرت العطر. رشّت منه تحت أذنيها، وعلى شعرها.
ابتسامتها الفالتة، وذلك البريق الذي ومض عجولاً في عينيها، شغلا أمّها. تقول بداية:
• الجوّ حارّ وحارق. أجّلي خروجك إلى الغروب!
• لا. تجيب سامية.
• أو إلى المساء، أفضل.
تظل سامية على صمتها.
تتململ أمّها، تجلس في السرير، ترفع الوسادة وراء ظهرها، ثمّ تسأل بنبرة شكّاكة:
• سامية! بالله عليك، إلى أين تذهبين؟
• قلت لك، سأودّع نهلا، صديقتي. أنت لا تعرفينها، نزحت هذه السنة، من دير الزور. وغداً ستسافر هي وعائلتها إلى ألمانيا.
وتستدرك، تخفّف من حدّة التوتّر، تبرّر أناقتها الفائضة:
• هي حفلة وداع للعائلة. عزمت نهلا إليها جميع صديقاتها.
كان على سامية أن تجعل صديقتها نازحةً من آخر ما عمّر الله، كي لا تخضع لاستجواب طويل، فيما لو كانت نهلا، المخترَعة أصلاً، من مدينتها هذه. أو من أيّ مكان آخر، يقيم فيه أحد أقربائهم أو معارفهم. أمّها وتعرفها جيّداً، لن يهدأ لها بال حتى تعرف أدنى وِجْهات تحرّكاتها وأقاصيها. وكان عليها أن تجعل نهلا تعيش وسط عائلة، بالضرورة. فلو جعلتها عازبة مثلاً، أرملة أو مطلّقة، تعيش خارج سرب العائلة، لكان الاستجواب أشبه بتحقيق أمنيّ، قد يصل حدّ منعها من الخروج فعلاً!
في الممرّ، حيث خزانة الأحذية، تنتعل سامية حذاءها ذا الكعب العالي. تسمع نداء أمّها:
• سامية! أريد الذهاب إلى الحمّام.
تتأفّف سامية بصوت خفيض. الوقت يمضي سريعاً. لا تريد أن تتأخر حتّى لو قدّر جمال ذلك. اليوم عيد ميلاده.
• رحتِ إلى الحمّام، من ربع ساعة، قبل نومك!
تردّ أمّها بصوت حانق مقهور:
• رحتُ، وسأروح الآن! أعملها بثيابي، ما رأيك؟ وهذا الكتام يكاد يقتلني!
تنظر الأمّ إلى الأعلى، تثقب ببصرها السقف، وسقوف الشقق العليا، وصولاً إلى الله، ترفع صوتها وتمطّ الحروف، لا تبغي أن يصل إلا لأذنيّ ابنتها:
• لِمَ لا تأخذني، يا الله!
همست سامية لنفسها بحنق: «أحدٌ سواي، لن يسمعكِ أبداً!» تخلع حذاءها، تركله إلى آخر الممرّ، فقد تطول وقفتها في الحمّام. وقد يحدث ما لا يُحمد عقباه! وما كان ينقصها الآن غير هذا الكتام اللعين!
وكي توقف استجوابات أمّها المضجرة والمتعبة، تقول تطمئنها، وهي تنهضها بهدوء:
• قلت لكِ أيضاً إنّ أم فارس ستبقى معك حتى عودتي. تتسلّين معها.
تتجاهل أمّها قولها، وتبدي قلقاً مباغتاً وفائضاً، مثل طفل اختفتْ لعبتُه:
• عكازي! أين هو؟ العكّاز!
تتلفّت سامية حولها. عقارب الساعة تطير في دورانها. تسرع، إلى غرفة الجلوس، ثمّ إلى الشرفة. تجد العكّاز. كي تخطو أمّها خطوة واحدة، تحتاج إلى عكازين على الدوام، أحدهما هذه العصا المعقوفة الرأس، والأخرى سامية المعقوفة كلّها. اللعنة! تسرّ سامية لنفسها، وهي تقود أمَّها إلى الحمّام.
في الحمّام، تسألها أمّها، وهي تحدّق في عينيها:
• هل ستتأخرين عند صديقتك؟
تتحاشى سامية نظراتها والإجابة، وهي تتنبّه من شرودها. كانت بين ذراعي جمال. ثمّ وهما يطفئان الشموع معاً. في الحقيقة، هما شمعتان فقط على شكل رقمين (5و4) اشترتهما مع قميصٍ وعطرٍ فاخرٍ. سينهي اليوم خمساً وأربعين سنة. سيرقصان طويلاً. كما فعلا في عيد ميلادها التاسع والأربعين. جمال ينسيها كِبرَها، وفارق السنِّ. الخمسون رقم يصعب عليها ويقسو، إلى حدّ لم يكن ليُحتمل، لولا هذا الحبّ الذي أتى بغتة، هبط عليها من سماء لم ترحمها سابقاً، أبقتها عازبة، ومرّغتها في قصص حبّ، حاولتْها سرّيّة أيضاً، انتهى بعضها على ألمٍ شنيع. تزوّج الأخوة والأخوات جميعاً وتركوا لها أمّها في عهدتها وحدها. غائصون في انشغالاتهم طوال الوقت. الأنانيّون! البخلاء! بلى هم بخلاء في المال والمشاعر العطوفة. البخيل بخيل في كلّ شيء! وأنتِ! عازبة، أو عانس! عليك أن تشيلي على ظهرك، سابقاً عجز الأب المرحوم، وحاليّاً عجز الأمّ. ومساندة العائلة كلّها في أفراحها وأتراحها. عليكِ حمْلُ وِزْرِ هذا العالم التافه كلّه! تحدّث نفسها. وبتوتّرٍ تنهضُ أمّها عن كرسيّ الحمّام. بقوّة، تضغط كبسة السيفون. تسوّي لأمّها ملابسها، تغسل لها يديها. تنظر في المرآة! إلى وجهيهما. لشدّ ما تتشابهان! كأنّما تكتشف ذلك توّاً! لا تشعر بشيء إزاء ذلك. تعود تسندها، وتستعجلها في سيرها. كم مرّ من الوقت؟
• هيه! على مهلك، أكاد أقع!
ثمّ تردف بصوت فيه وعيد:
• على كلٍّ، الله يرى كلّ شيء! «الله لا يرى شيئاً!» كادت تردّ على تهديد أمّها. وتفكّر: «لو أنّه يرى لرأى هذه الحرب الوسخة الطويلة، ولرآني!».
أجلست أمّها على الصوفا، في غرفة الجلوس. وأخذت تسوّي وضعيّتها، وما تزال تتحاشى نظراتِها تترصّدها، وتتربّص بها. قرّبت منها طاولة، وضعت عليها صحناً من الفواكه، وقنينة ماء، كأساً، سبحة طويلة، جهازيّ تحكّم للتلفزيون وللمكيّف، وعلبة المحارم.
الثالثة إلّا ربعاً. ستتأخّر.
تفكّر أن تتصل بأم فارس. لكنّها تعدل عن ذلك. مرتبكة ومشوّشة الذهن. تُهرع إلى غرفة النوم. تتذكّر أنّها لم تضع أغراضها في حقيبة يدها. حارته قريبة، لكنّها لا تريد أن تتأخر.
• ماذا تفعلين عندك؟ اجلبي لي كأساً من اللبن.
تسرعُ إلى المطبخ، تحضر كأس اللبن. تضعه على الطاولة. وترجع تكمل تهيئة نفسها.
• سامية حبيبتي، ناوليني شرشفاً!
تعود إلى أمّها تناولها الشرشف. تأخذه أمّها وتضعه جانباً.
لم تكد تختفي من الغرفة، تسمع طلباً آخر:
• الله يرضى عليك، هاتي لي قطن الأذان.
الثالثة إلّا سبع دقائق. «سأخرج!» همست. لم يعد بوسعها التركيز. تغضب بصمتٍ. وهذه الكهرباء اللعينة مقطوعة منذ ثلاث ساعات، لم تعد بعد. العرق ينسكب غزيراً. سيخرّب تسريحة شعرها، ويفسد كحل عينيها. ورائحة العطر.
قالت:
• علبة القطن عندك، فوق خشبة الصوفا.
• سامية اللبن بارد جدّاً، هل تسخنين ماء وتضيفينه عليه؟ «يا إله الصبر! اللعنة!» تهرع إلى المطبخ. تسخّن الماء، وتداري دمعاً يكاد ينهمر. ترسل رسالة نصيّة إلى جمال تعتذر فيها عن تأخّرها، وتؤكّد مجيئها. تبكي.
بغتة تعلّو أصوات شجار، في الجوار. يتلوها صوت صاعق، كأنّما انفجار. تصرخ الأمّ بهلع:
• يا ساتر استر! يا لطيف! يا ...
تركض سامية إلى الشرفة، صوت أمّها يلحقها:
• ادخلي، يا مجنونة! إنّها قذيفة! وتخرجين! إلى أين ذاهبة؟ لا تتركيني! يلعن «أبو نهلا»، وغيرها. فليذهبوا إلى جهنّم!
تعود سامية من الشرفة وهي ترتعش. مرتاحة أن لا قذيفة سقطت، ومستاءة لأنّ الشجار يعني أنّ أم فارس تقف عند نافذتها، ولن تتخلّى عن مشاهدته، حتى النهاية. ستتأخّر! وبسرعة البرق، تنتعل حذاءها، تحمل حقيبتها وكيس الهدايا، تقول لأمّها المذهولة:
• ليست قذيفة، ولا صاروخ. أم رغيد «المصروعة» ألقت بطاولة من طابقها على الحيوان نزيه، كان تحت في الشارع. مثل العادة، يتشاجران!
• لا، لا، هي قذيفة. أنت تكذبين! كيف تذهبين، والدنيا تشتعل؟
تقول الأمّ ذلك، بخوف حقيقيّ، وهي ترمق كيس الهدايا بفضول، من دون أن تجرؤ على أن تسأل عمّا فيه.
• أمّي، سأتّصل بأم فارس. وهي ستحكي لك عن شجار أم رغيد ونزيه.
أصوات الشجار، توقّفت. دقائق أخرى تمرّ بعد الثالثة. البابُ يُقْرِعَ.
لن تسمح سامية لأمّ فارس بإيقافها. تفتح الباب وتنسلّ بعجالة، فاسحة المجال لها للدخول. وهي تدير ظهرها، تقول بنبرة من يطلب شفاعة:
• صينية المتة والبزورات على المجلى، صحتين وهنا.
• ولكن، كاد نزيه يُقتل!
تقول أم فارس في اندهاش، وهي تقف بالباب المفتوح، تتساءل: تُرى إلى أين تذهب سامية، مغطّسةً بالعطر، و بهذه الأناقة كلّها؟!
* دمشق