«أنا لا أكتب بل أسامر وحشتي كي لا تبكي»، يقول أنسي الحاج، ويمضي في الكتابة إلى أن يتوقف النبض، بعدها تتابع الأوراق الّتي خطت حروفها مسيرة الثنائيات المعانقة للدهشة والفجيعة في فضاء الفسحة الضيقة المتاحة لما بعد الشعر أن يفعله داخل النفس.أنسي الحاج لا يكتب، ونحن لا نقرأ! كلانا يبحث عن السحر في ما بعد القول، فنسقط معاً في تأويل الوحشة من غير مواربة، حيث عدم أمان الممكن، الفرصة المتاحة بسهولة، فأين المفر؟ هو السؤال الأهمّ الذي يتركه لنا ونحن نتظاهر بالقدرة على تفكيك الجمل الآيلة للتناثر تحت وطأة المجاز، نحسبها شعراً. في شعره تستيقظ المرأة من البيان خجولة، مشاكسة، أنيقة، فوضوية، لكنها عذراء، كما الغيم الموصى به أن يكون مرادفاً لما توصي به القبة الزرقاء المحاصرة بشباك ما نزّ في داخلنا من حنين إليها. هي ليست قصيدة كما نرغب أن تكون، هي مسامرات يُضاف إليها المباغت المتربص في وحشة التناقض الجغرافي مع الذات العاشقة، فنتّحد معها حيناً، وحيناً ندخل في تناقضاتها من غير رجعة، لنصبح في القرار كالقابض على جمر الفوضى المشكلة لما بعد القراءة. لكن البراءة المتوحّشة في عفويتها تأبى الخضوع للممكن لتجعلنا نقرّ مع صاحب «خواتم» بأن كلّ امرأة هاوية وكلّ حبّ سقوط، فيضيع الشعر من جديد وتصبح القصيدة في مأزق التملّص من الإيحاء الفوري والمؤجل في آنٍ معاً، ومعاً سوف نعود إلى المرأة، نطالبها بأن تصعد إلى السطح وتفرد غسيلها على خيال حبال الجار، فيصبح الخيال بلا حدود، لكنه بلا صبر أيضاً، وهذا مشروط بأن لا تخلو السطوح، لأنها عندما تنأى يُغمض الجار عينيه حسرة ويستسلم إلى غول الأعماق.


هناك في القاع حيث نتعلم الهزيمة، الهزيمة من ذاتنا، من وحشتنا، من المرأة، من القصيدة، أم من الإيحاء المحمّل بطاقة تدميرية قادرة على أن تقطع حبل المعنى التقليدي الّذي يتيحه الشعر في الشرح والتأويل، لتغدو مفتوحة على احتمال الإغراق في التصوف في آن المشاركة مع الإيروتيكية الفجّة، وفي حال التخلي عن الاعتراف بكلتيهما نقدياً، فليس من المواربة القول بأن الضحية ذات أقنعة لكنها تكره القدرة على أن تكون كالشمس في تجلّيات نورها عندما تريد أن تظهر في جغرافيا ما دون تأويل. بمعنى آخر، المباغت في المسامرات محكوم بجغرافيا المخالفات البائنة، حيث الوضوح يتماهى مع الغموض بغزارة التائب والمجرم معاً كي لا تبكي الوحشة بعيداً عنا، ونغدو غرباءً فتضيع منّا الخصوصية الّتي أشار لها بقوله «أنتَ مجموع ضحاياك؟ ضحاياك أيضاً مجموع روحك»، والتي نستطيع من خلالها تأطير الرؤية التّي انطلق أنسي الحاج منها في جميع ما كتب وبصياغات مختلفة عند خضوعها للتجنيس. كما أن تلك الرؤية هي بديل موضوعي لما تأتي به الجغرافيا من مفاجآت ميدانية على مدار الساعة وتجعل من ساكنها بشكل دائم في حالة من مسامرة الوحشة فماذا لو كان غير ذلك، ماذا لو تمّت إزالة السدود أو تمّ تحصينها؟
«في الأولى يتدفق الموج، تُرفع الكلفة، مع الثاني تتعمق العزلة، رفع الكلفة يأتي بالورود والشوك، ضريبة الأُنس قد تكون أشدّ من وطأة الوحشة تدعيم الحدود والسدود ينشف القلب لكنه يضمن الهدوء والخصوصية ونظافة المكان».
في أيّ طرف من الثنائيات المتوازية أبداً في كتاباته تكون النجاة: نسأل أنسي الحاج بعد رحيله، فتأتي الإجابة حائرة في ما بعد الشعر وما قبل الفاجعة: «الظل الناجم عن الاعتدال ما بين هذين القطبين، ظلّ حسابي وجبان، أين الحل إذاً؟ إنه في بقاء المشكلة: حيث المعاشر المختلط يزداد تحسسه بداخله كلما اندلق إلى الخارج، وحيث المنعزل المختبئ يزداد تسامحاً مع البعيدين عن سمعه ونظره».
*كاتب سوري