في كتابه «المهنة الآثمة» (دار الريس ـــ 2018)، يقف جهاد الزين على ربوة عالية، يرنو الى الحقل الذي أمضى ــــ وما زال ــــ حياته فيه ويقرأ تجربته الحية بأسلوب «جهادي» يخلط السياسة بالأدب، والعام بالخاص بلغة عربية يعمد الى النحت فيها، اشتقاقاً وانشقاقاً كي يوصل فكرته، الاستراتيجية في الغالب، فيشهد لها وعليها، فكأنه اثنان: الشهيد والشاهد، حسب القول الصوفي.يتضمن الكتاب تسعة فصول، وخاتمة تدور كما توحي عناوينها حول:
1- اللامقال، انشقاق اللغة واشتقاق السياسة
2- الارتياب
3- نص الفساد وفساد النص
4- النص المحرّم
5- نذالة النص ونص النذالة
6- ماذا يريد القارئ، هل القارئ هو القارئ؟
7- اليومي يهاجم التاريخي
8- وقائع الواقعة الواحدة، حقائق الحقيقة الواحدة
9- تهويد كتابتي السياسية، الخاتمة.
يمكن قراءة الكتاب من أكثر من موقع، وقد آثرت قراءته من موقع العملية الإعلامية التي درّستها في جامعتي لسنوات طويلة، وموقع جهاد في العملية الإعلامية ضمن الجهاز المرسل. والمرسل هنا هو الجريدة/ الجريدتان، والمتلقي، وهو هنا الجمهور اللبناني ثم العربي، أو بالأحرى القراء اللبنانيون والعرب، وهم، في النهاية، قلة/ نخبة مثقفة ومسيسة. والرسالة، وهي أحداث العالم. وتلفّ العملية الإعلامية بأطرافها الثلاثة وتتحكم بها بيئة، هي نظام سياسي لبناني في مجال عربي وعالمي.
لحسن حظ جهاد أو لسوئه، كان المرسل الجريدتين الأبرز في لبنان، وكان المتلقي الجمهور الأكثر ثقافة صحافية، وكانت الرسالة ممكنة الإنتاج من مصادر متنوعة ومتعددة وفي جو من «الحرية». وكان النظام اللبناني في بدء تجربة جهاد، وما زال، متقلقلاً، وإنْ كان جهاد يعتبر الوطن متقلقلاً، لا النظام. وكان المجال العربي متحولاً من مناخ حامل لهموم مستقبلية ومسكون بالتسابق نحو التقدم، الى مناخ حامل لهموم الماضي ومسكون بالتسابق نحو الخلف. كما كان العالم الذي شهد بدء تجربته محكوماً بثنائية قطبية شبه ثابتة وبإعلام عماده الجريدة، فأصبح عالماً وحداني القطب تترنح وحدانيته وأصبحت الجريدة، وبخاصة الورقية، هامشية مع تنامي محطات البث التلفزيوني والإلكتروني.

جهاد في موقعه هذا يتعاطى، بالتكوين، مع وقائع متغيرة. عالم يقطع الأنْفس بسرعة تغيّره: بيئة ووسائل إعلام ومصادر أخبار وتحولات، فكيف تعامل مع ذلك، أو بالأحرى كيف شهد على تجربته؟ فجهاد، كوافد الى الصحافة، حمل معه توجهه اليساري، لا بل التزامه، مع مشتقاته كافة، وتخصصه الحقوقي وميزانه الدقيق، ولو الشكلي، وإرثه العاملي، أدباً ومعاناة ومعارضة، كما حملت إليه الصحيفتان اللتان كتب فيهما، وهما الأكثر انتشاراً وحضوراً، العالم على رحابته، قضايا ومتابعة وتكنولوجيا، فوعى جيداً، أو بالأحرى تدرج في وعي استحالة أنْ يكون العالم حولك على صورتك، واستحالة أنْ تجعل هذا العالم على وقع تصوراتك، واستحالة أنْ تقدم للقارئ العالم كما تتصوره، لا كما هو. واستحالة أنْ يكون ـــ وهو المحرر ثم المعلق في الجريدة ـــ هو الجريدة، كمرسل ومموّل وموقع.
وكانت الانطلاقة إدراك جهاد «أنّ اليسارية كرصيد معرفي ثقافي هي الرصيد الذي يمنح استخدام التعليق قوة تحليلية. لا مجال للمطابقة مع الواقع، هذه المطابقة تأخذها من اليمين... التفاوت المدهش بين العمق الثقافي للتحليل اليساري وقوة الرؤية الواقعية للتحليل اليميني رغم سطحيته» (ص 33)، فكان كذلك، أو بالأحرى درّب نفسه ليكون كذلك، وهكذا أصبح.
ففي موضوع الكتابة، واجه، بارتياب ــــ حسب تعبيره ــــ قضايا إشكالية له، كإنسان وكمعلق: «الحرب اللبنانية، اتفاق أوسلو، صعود الشيعة، الحرب السورية» وغيرها، فخرج من خطابه اليساري ليدرك خطورة الحرب على لبنان، وعلى أي بلد، وخرج من إرثه العروبي، وهو حفيد لأحد حماة التيار العروبي وتنظيماته في خمسينيات القرن العشرين، ليرى إيجابية أوسلو ويؤيده، وخرج من شيعيته، وهو من عائلة أعطت لنيل الشيعة حقوقها، ليرى خطر هذا الصعود، وخرج من حسّه الديموقراطي المرهف ليرى خطر عسكرة الانتفاضة في سوريا، وكان، كما في عرضه في الكتاب وفي متابعته الأسبوعية، صادماً. وفي موضوع الكتابة أيضاً، وخارج القضايا الأربع الآنفة، كان الحدث ــــ أي حدث ــــ موضوعاً مُشْكلاً بحد ذاته. فهل الحدث هو الواقعة؟ وهل الواقعة هي ما نُشِرت أخبارها، أم أنّها وقائع، كما سمّاها جهاد؟ وهل ما نُشِر عنها هو «الواقع كما هو» وفق ما تردد بعض وسائل الإعلام؟ وهل الواقعة/ الحدث التي هي، دائماً، وقائع ــــ تبعاً لمحْدِثيها وناقليها وبالتالي متلقيها ــــ على «سكونها» الذي عرفته المرحلة الكتابية في الإعلام، أم أنّها متغيرة في كل لحظة في ظل التدفق الهائل في المرحلة السمعية البصرية للإعلام؟ وهل يستطيع الكاتب مجاراتها؟ لقد أدرك جهاد ذلك في ما كتب عن «القصور عن الإحاطة» و«اللهاث وراء الخبر» «وقائع الواقعة الواحدة» وغيرها (ص 83 و233 - 258)، فحاول ــــ كما أورد الكتاب وورد في مقالات المؤلف ــــ التقاط المدلول الاستراتيجي في الخبر، وبذل جهود لتعزيز مواكبته لليومي ولطريقة صناعة الخبر عبر دورة أقدم عليها في إحدى الصحف الأميركية وأخرى في فرنسا.
تراجعت الجريدة وانكفأت النخب إلى زوايا البحث الأكاديمي وتشظّت النخب الوطنيّة


في موضوع الكتابة، أيضاً وأيضاً، هناك النص المحرّم ــــ حسب تعبير جهاد ــــ وبخاصة مع صعود الخطاب الديني من جهة، وكثرة رعاة الرصاص الصامت أو المتفجر بين الحاكمين. فكيف يتعامل معه الإعلامي وقد أصبح النصّ بشقيه هو الحاضر الأكبر في الأحداث؟ كيف يتعامل معه ودمه «مباح من قوى مجتمعية من تحت وقوى سلطوية من فوق»؟ تملي هذه الضغوط المهددة رقابة «ذاتية» على الكاتب، لكن جهاد كان من القلة التي لم تستسلم لهذه الضغوط.
وكان هاجس جهاد، كما يستنتج من الكتاب وكما ورد فيه أيضاً: كيف يوفق في قوله/ كتابته بين عمق التحليل اليساري المنغرس فيه، ودقة التحليل اليميني التي تتطلبها المهنة؟ وكيف يوفق بين إرثه الأدبي والعروبي و«الشيعي» ومتطلبات السياسة وقراءتها؟ وكيف يوفق بين حركية الحدث ومحظوراته وضرورة الإخبار عنه والتعليق عليه؟ وكيف يوفق بين نخبويته الثقافية وتفاوت مستويات قرائه؟
تطرق جهاد إلى كل هذه التناقضات والتوفيقات، فكيف أعلن تعامله معها؟ حاول نحت كلمات ومصطلحات في اللغة تقارب العامية من دون أن تكونها وبـ«لغة» أنيقة في فصاحتها وواقعية في تعبيراتها وبأسلوب قدم فيه الواقعة/ الحدث ومدلولاته في أطره المحلية والعربية والعالمية وفي بعديه الثقافي والسياسي، فخرج بذلك عن الوصفي والخطابي، في آن واحد.
شغله التعبير عن الواقعة/ الحدث ومدلولاته برغم المحظورات المعيقة، فطرح إشكالية اللامقال في المقال: كيف تعبر عما تعجز عن البوح به؟ وطرح إشكالية نص الفساد وفساد النص ونذالة النص ونص النذالة كقضايا مطروحة، يومياً على المحرر والمعلق، وعلى القارئ أيضاً.
وفي ختام العرض السريع للكتاب، يمكن القول: نجح جهاد في كتابة سيرته الصحافية ونقدها، خارج عروض بعض السير الوصفية وربما المبتذلة، وقدم في ذلك خدمة للصحافيين الجدد وللباحثين ومن ثم للقراء في فهم إنتاج النص/ التعليق. دافع جهاد عن فكرة هابرماس ودعا الى إعتمادها وهي الوطنية الدستورية، وهو دفاع يستحق أنْ يتوقف عنده الباحثون والسياسيون، كدعوة لبناء أطر سياسية، خارج إطار الدعوات لتجديد ما يتعثر تجديده من أطر دينية وقومية وعالمية. لامس جهاد فكرة مهمة في الحديث عن النخبة (نهاية نص النخبة أم نهاية النخبة الوطنية؟) وهي ملامسة، وإنْ لم يتعمق، في صلب العمل الإعلامي والسياسي، فالجريدة هي نتاج مرحلة الرأسمالية الوطنية المتوافقة مع نشأة الدولة القومية، فأنتجت النخبة الوطنية لهذه الدولة، وكانت النخبة. أما اليوم مع مرحلة الشركات العابرة للدول، اقتصاداً ومالاً وإعلاماً ومعلومات، فقد تراجعت الجريدة وانكفأت النخب الى زوايا البحث الأكاديمي وتشظت النخب الوطنية. أو ليس معبّراً سيادة أسلوب التغريدات عند كل الساسة في العالم؟ أو ليس معبراً انكفاء القوى المصرّة على الأساليب القديمة، أو بالأحرى عدم إدراك متغيرات العصر؟ نجح جهاد في نحت تعبير «تهود» للدلالة على حالة الترحال الدائم والمستمر له ولنا وللناس. ترحال في المكان والزمان، ترحال في الوعي والثقافة. في الخلاصة، لا يغني هذا العرض عن الإمتاع الغني في قراءة النص، لنرى الشاهد في ما شهد ولنرى أنفسنا في مرآته.

* أستاذ جامعي