وصف أوكتافيو باث يوماً شِعر روبيرتو خواروث (1925-1995)، شاعر الأرجنتين الأعظم بعد بورخيس بما يلي: «إنّ كل قصيدة من قصائد خواروث هي بلورة كلامية مدهشة: اللغة عنده تُختزل إلى نقطة من الضوء». روبرتو خواروث الذي أدار مجلة «شعر» الأرجنتينية ما بين عامي ١٩٥٨ و١٩٦٥ بعد دراسات في الآداب والفلسفة، استعمل في مواجهة الأبدية كلمات أبدية هي الأخرى، بطيئة لا يمكن تجنبها، كلمات منحوتة لكنّها في غاية الحساسية: «حتى الأبدية لا تكون للأبد» كما يقول في أحد أجزاء مؤلفه الشعري الفذ «شعر عمودي»، وقد أخذت «دار جوزيه كورتي» النخبوية على عاتقها مهمّة ترجمته إلى الفرنسية في تسعينيات القرن الماضي. في أنطولوجيا تحمل عنوان «أن نسكن شعرياً في العالم»، اختارت دار Poesis الباريسية عام ٢٠١٦، تنظيرات خواروث حول الشعر والخلق، والعلاقة بين الشعر والشعراء والمجتمع والعلوم كافة كمحور أساسي في الأنطولوجيا التي تشبه المانيفستو الشامل للتفكير في «السكنى الشعرية للعالم». عبارة وردت في إحدى قصائد هولدرلين، وقد جمع الكتاب زبدة ما كتب في الغرب حول الشعر من العصر الرومانسي وحتى اليوم. يذهب خواروث بعيداً في تعريف الشعر كحقيقة عليا، ليضيف بعداً جديداً إلـى جملة نوفاليس الشهيرة: «الشعر هو الدين الأصيل للإنسانية». نقدّم في «كلمات» المحور الخاص بخواروث (الذي لم يُترجم إلى العربية بعد) في الأنطولوجيا المشار إليها، لنعرّف بشاعر «أساسي» يعتبر أن وظيفة الشعر هي إنقاذ الأساسي في الإنسان بالكلمة الأساسية.
الشعر والخلق
تعريف الشعر هو نوع من المستحيل، من اليوتوبيا. هل بمقدورنا تعريف الحياة؟ هل بمقدورنا تعريف الموت، الموسيقى، الحب؟ إنني أحلم بتعريف ما… حين يقوم الأمر على نحوٍ تصبح فيه الأشياء حاضرة في غيابها، فهذا يعني أن الأشياء كائنة. الشعر، يعملُ بالغياب، يعملُ كما في الأعجوبة، بالوسيلة التي نمتلكها لالتقاط الواقع: خير وسيلة لتصوّر شيء ما هي بتسميته عبر شيء آخر.

الشعر ليس تفسيراً لشيء، كما رأى هولدرلين بوضوح، وريلكه، وغيرهما. الشعر، كما نعلم، تجربة. إنه نوع من الشجاعة أو الجسارة، الواعية أو غير الواعية، التي تحملنا على أن نواجه وأن نعيش الحدود النهائية للأشياء النهائية، أن نواجه الظلمات. الشعر هو على العكس تماماً من الجُبن. إنه التجربة العميقة لما هو سرّي، لما لا يمكن شرحه. إذن، حتى وإن لم يزعم تفسير أي مسألة، وحتى لو أنه لا يحمل على الانطباع بأن الأشياء تمتلك تفسيراً أو تناسقاً ما، فإن الشعر لا يتعارض مع العبث، بل يوافقه بالدرجة الأعلى من الانسجام. لا يتعلق الأمر بتجربة عبثية، ولكن بتجربة العبث. من أجل ذلك، لا أعتقد بأنه يمكننا أن نجد للأشياء معنى مفهوماً. فكرة صاغها بول كلي لا تني تستثيرني، حين قال بأن المرئي ليس سوى مظهر واحد للواقع. يصير الشعر من حينها محاولة كشف المظاهر الأخرى المستترة للواقع. الشعر هو تأمل للكون، وتأمل للأكوان التي يخلقها هو. الشعر بحث وخلق للواقع. الإنسان، لاستيفاء شرط إنسانيته، عليه أن يفكر في لحظات ما مثل رجل العلم أو الفيلسوف، وفي لحظات أخرى مثل متصوف، شاعر أو فنان. الشعر اليوم بلا شك، هو لمعظمنا، الإمكانية الوحيدة الممنوحة كبديل عن الميتافيزيقا، وخاصة عن الدين. ليس من العبث أن نوفاليس استطاع أن يكتب: «الشعر هو الدين الأصيل للإنسانية». ويمكِننا إضافة: الأصيل والنهائي. بالنسبة لهولدرلين، فإن هايدغر قد اقترح التعريف التالي، وهو واحد من أعظم التعريفات في تاريخ الفكر: «الشعر هو تأسيس الكائن بالكلمة»، ليعيد التعريف ذاته بشأن ريلكه، مضيفاً: «هكذا تكون وظيفة الشاعر، خاصة في زمن القحط».
أعتقد بأن الإتيقا، والإستيتيقا، والشعر هي أشياء مستقلة عن بعضها وتحيل إلى موضوعات مختلفة. لقد رأينا سابقاً بأن الشعر لا يمكن اختزاله بصنف محدد من المعرفة. إن الطابع الاستثنائي للتجربة الشعرية لا يمكن استيعابه في أي منظومة الإتيقا أو إستيتيقية، أو معرفية. يقوم السؤال إذن على معرفة إن كان الشعر بنفسه مرشَّحاً لأن يفضي إلى الفضيلة، إلى الجمال، إلى الحقيقة. لو أخذنا الإتيقا مثلاً، فسنرى أنها تحيل إلى سلوك الإنسان تجاه قيم معينة، الخير، الشر، إلى ما هو مناسب أو نقيضه، الخلل، الخطأ، الشجاعة. لكن هذه المفاهيم هي في غاية الاغتراب عن الشعر الذي يسمو عليها لأنه في صلب كينونته إتيقا عميقة. إنه في نهاية المطاف طريقة للوجود، للتصرف بعمق، سلوك متكامل في مواجهة الواقع. الشعر محاولة لتنقية الرؤية، لفتح العينين على الأشياء في امتلائها.
لو كان الشعر يبحث عن حقيقة ما، فإن هذه الحقيقة لا يمكنها أن توجد في مصادفة الكلام أو المعرفة مع حقيقة هي غريبة في أصلها عن الشعر. يكون الشعر حقيقة، وإلا فإنه لا يكون. لا تقع الحقيقة ضمن علاقة خارجية معه، ولهذا حين يعتبر الشعر خلقاً للكينونة، فإنه يكون بذاته الحقيقة العليا.

الشعر والشاعر
لا يفسَّر الشعر بظروف خارجية، رغم أن هذه الظروف يمكنها أن تشفي فضول البعض، أو حب الاستعراض لدى البعض الآخر. الأكثر إثارة للاهتمام هو العلاقة بين الشعر والحياة الداخلية. يجب تهذيب المعرفة بالعمق الإنساني، بالمأزق الإنساني بشكل يتجاوز البيوغرافيا، والبيولوجيا، وعلم النفس والتاريخ، دون أن ندَّعي بأننا نفسر الإنسان بالمطلق، لكن ببساطة المعرفة من أجل فهم أفضل لخصائص الإنسان الأساسية، باطنه، اكتشافاته، وأسراره. سننتبه أخيراً إلى أن كل كينونة حين نعيشها بعمق، يمكنها أن تفضي إلى الشعر. فلنسأل عندها لماذا يختار المرء أن يكون شاعراً، لماذا يختار نمطاً من الحياة يعِرف مسبقاً تمام المعرفة أنّ فيه نوعاً من الثِقل؟ هل يختار أحدنا أن يكون شاعراً؟ الادعاء هنا باعث على الشك. ثمة شيء يقدِم من موطن خلفي، دون أن يكون استعداداً مطلقاً، لكنه شيء يخلق قابلية في دواخلنا و يقرّر بالنيابة عن ذواتنا. ما هي هذه القابلية المسبقة؟ لم أقتنع يوماً بتفسيرات علماء النفس، والمحللين النفسية الزاعمة بأن أوّل تجارب الحياة هي الحاسمة. أجهل الدور الذي تلعبه الوراثة، التجارب الطفولية، وأن الإنسان قد يكون عانى نوعاً من الوحدة، أو يمتلك بعض الاستعدادات المزاجية، القابلة للتمدد أو الانقباض؛ لكن يمكن الافتراض أن كلّ هذه الشروط تتوالف مسبقاً في اختيارنا للشعر، اختيارٌ يتبدى مثل القَدَر. أظن أنه في الشاعر الأكثر وحدة، الأكثر عزلة، تسكن الإنسانية جمعاء، الحقيقة كلها، بالرغم من أن قلقه لا يسمح له في الأوقات كلها بالانتباه لهذه السكنى، وأن الشاعر قد يعاني بشكل عَرَضي من نقص في التعامل مع محيطه. لا نقلل هنا من شأن التمسك بالوحدة، لكن ليس في كونها فرادة لا تقبل الاختزال، بل في كونها مثل دأب من يحفر الأرض ولا يعرف على أي عمق سيكون في قلب الاشياء. أتساءل بداية إن كان الشعر يسكن الشاعر، أو أن الشاعر هو من يسكن الشعر. سؤال جديد قد لا نعثر له عن إجابة. في كل الأحوال، طريقة السكنى هذه، أياً كان شكلها، هي غير مشروطة. الشاعر كائن فانٍ، مثل غيره. من أجل ذلك، إنه لمن المدهش أنه من قابليته للفناء ذاتها، تُخلق قدرة لا نتعرف البتّة على مكان ولادتها، وبالرغم من وهنها ومن كلّ المقاومة التي تنتصب بوجهها، فإنّ الإنسان قادر على أن يخلق بها أشكالاً معينة شاهدة على كينونته. العيش، رغم عَرَضيته، هو البعد المطلق للإنسان، والشعر هو الشعيرة المناسبة لهذا البعد. الامتلاء الأكبر للحياة الذي يمكنني وُلوجه، لا أعرف تجربة حية لها مثل هذه القوة. الشعر هويتي.

الشعر والمجتمع
لا يتوجه الشاعر بالكلام للمجتمع، بل للإنسان، عزلة تخاطب عزلة، صمت يخاطب صمتاً، كائن يخاطب كائناً. المجتمع صخب، معسكر اعتقال، منافق بشكل أو بآخر، حافز للريع والسلطة، تشويه للإنساني. الشعر، على النقيض، هو بامتياز احترام للإنسان. لا يطلب الشعر بالمطلق أي امتياز لنفسه. من أجل أن يعطي أو أن يأخذ، يطلب الشعر فقط من الكائن أن يركّز على ما هو عليه، وأن يتنكر للصورة التافهة أو السيمولاكر وأن يتجنب كل الأفخاخ التي تنمطه: الايديولوجيات، الأخلاقيات، السياسة، التجارة، الصفقات، والأفكار المجردة الطموحة. الشاعر كائن هامشي ومنفيّ: من قلب هذه الوضعية بالتحديد، يمكنه أن يخاطب الإنسان. لا يعلّم الشاعر الآخرين: إنه يخلق ويتشارك. يقوم الشعر على الكينونة، وهذا ما يعطيه خشبة الخلاص القصوى في عالم يغرق. الشعر تيار عكسي، هرطقة، وهو أشمل من التاريخ، هو مضاد للتعليم لأنه هوس بالوطن الأصيل للإنسان بواسطة اللغة أو الكلمة التي تغوص في سره وتنقل هذا السر. كل الباقي هو ميثولوجيا مضللة، أو حتى خدعة، ديماغوجيا، هذر عابر. ما يميز الشاعر عن المجتمع ليس الغرور، ولكن احتفاؤه غير القابل للترويض أو الاختزال بالأساسي في الإنسان. الشعر استثناء يمكن تقاسُمه، وتعاقد مضاد للبلاهة. يمكن أن تكون للشعر وظائف أخرى، لكن في العمق ليس له سوى مهمة واحدة: إنقاذ الأساسي في الإنسان بالكلمة الأساسية.

* المرجع: انطولوجيا «أن نسكن شعرياً في العالم» ــــ دار Poesis ــ باريس ٢٠١٦