بقي الجسد وتقنياته وكيفية التعامل معه في منأى عن الدراسات السوسيولوجية بما يستحقه من عناية وفحص بوصفه تخصّصاً معرفياً في المقام الأول. قراءة كتاب «قضايا الجسد: إدارة الجسد في الطهارة والتلوّث» (1993) الذي حرّره سو سكوت وديفيد مورغان (انتقل أخيراً إلى العربية عن «دار نينوى» ــــ ترجمة مازن مرسول محمد) تحيلنا إلى ندرة الدراسات العربية للجسد وتمثلاته في المشهد الاجتماعي بالمقارنة مع قراءات الآخر. يشتمل الكتاب على عناوين متعددة في مسح خرائط الجسد بأحواله المختلفة بقصد تصحيح المفاهيم المتعلّقة بالعنف والعواطف والحرب، وتوثيق النقص النسبي المرتبط بتثقيف العقل ونشر الفكر لزعزعة الإرث المتزمّت حيال مفردات مثل «التغوّط»، و«العري»، و«الانحلال الجسدي»، في محاولة سوسيولوجية لما أُهمل قبلاً في هذا السياق، وخصوصاً الفروق بين الجسد المُنظّم والمُسيطر عليه والمثالي من جهة، والمضطرب وغير المُنضبط والواقعي من جهةٍ أخرى، بما يتجاوز أطروحات الأوساط الأكاديمية التي تعاملت مع الجسد، كما لو كان قد جرى اكتشافه بعد فترة طويلة من النسيان.

يتساءل محرّرا الكتاب: «لماذا كان هناك نمو بشكلٍ واضح لسوسيولوجيا الجسد في السنوات الأخيرة؟». يعيدان السبب إلى تطوير نظريات النسوية، والإشارات النقدية المختلفة، والتأثير واسع النطاق لكتابات ميشال فوكو، والدوافع المتناقضة للحداثة وما بعد الحداثة، في إدراك مفهوم الجسد وإعادة صياغته كمشروع اجتماعي في سياق التفاعلات بين الدين والأخلاق والإباحية، والرقابة مقابل حرية التعبير في قضايا التمثيل والسيطرة على الجسد (الطبّي، والجنسي، والمُنضبط، والناطق). هكذا يعتني ديفيد كلارك في«سأبقى مخلصاً/ مخلصة لك» بالتركيب الاجتماعي لمشكلات الجنس الزوجية، والإجراءات الدينية ضد الجسد، وصولاً إلى الثورة الجنسية في ستينيات القرن المنصرم وما تلاها تحت شعار «افعل ما تحب»، بالإضافة إلى التفاعل الدينامي بين تصوّرات الجسد والعقل، من دون أن نهمل الأفكار التي تتعلّق بـ «مكننة العلاقات الجنسية، وإزالتها من مكانها ضمن العلاقات الإنسانية».
من جهتها، تتناول جويس شيرلوك موضوع «الرقص وثقافة الجسد»، مشيرةً إلى الطابع الثقافي للرقص بوصفه جزءاً من الذاكرة الثقافية للجماعة، من دون أن تهمل الخلفية الاجتماعية للجسد الراقص لجهة الطبقة والنوع والتواطؤ مع التصوّرات الثقافية للصورة الجسدية، وذلك بتحويل التركيز «من الجسد المرئي للراقص إلى المجال الثقافي بالنسبة للمتفرج». وسوف تقتحم العولمة الثقافية هذا المجال عن طريق الميديا في تصدير «الصورة اللائقة للجسد، وإعادة إنتاج الأجساد المناسبة للرقص في الشكل والمؤهلات». وإذا بالصورة المهيمنة للجسد تشير إلى التفوّق الثقافي، بعد صهرها بفنون الرقص الوافدة من ثقافات أخرى، كالرقص الهندي مثلاً. وتالياً فإنّ الشاشة تمثّل نوعاً من التعويض عن الجزء الأمامي لقوس خشبة المسرح. على الضفة الأخرى، يرصد آلان مانسفيلد وباربرا ماكجين نوعاً آخر من الأجساد في أطروحتهما «ضخ السخرية: العضلات والأنوثة» بقراءة الجسد الرياضي وانعكاس تربية العضلات على سلوكيات أصحابها، في ما يخصّ العنف والسلطة والمعرفة، أو «تكنولوجيا الذات» التي تُظهر الطبيعة المبنية للجسد الإنساني القوي والمقبول (مادونا مثلاً). وبذلك فإن بناء الأجسام للنساء هو من أقوى التعبيرات التي ظهرت بشكلٍ واضح في الحركة النسوية في مقاربتها للجسد الذكوري. تقول كارول موك، وهي من كبار لاعبي بناء الأجسام: «حينما أكون على المسرح، أريد لجسمي أن يتكلّم، أريده أن يغنّي تقريباً مع العضلة، للبقاء في عقل الشخص مثل اللحن المألوف»، فيما تحتج كوري إيفرسون على أولئك الذين يستهجنون العضلات الأنثوية بقولها «هل تنمية العضلة هو أقبح من تلال الدهون أو الجلد والعظام؟
تصحيح المفاهيم المتعلّقة بالعنف والعواطف والحرب

وهل الأسلوب الرياضي هو أقل أنثوية من طبقات الدهون والعجز والضعف والهشاشة؟». ويخلص الباحثان إلى أنه من المستحيل النظر إلى الجسد المتسلّط من دون التشكيك في تركيب الجسد الذكوري. ووفقاً للأطروحات السوسيولوجية الراهنة، فإن «ما بعد الحداثة لم يعد العصر الذي تُنتج فيه الأجساد السلع، إنما السلع هي التي تنتج الأجساد». وتذهب سوزان إدواردز إلى منطقة شائكة هي «بيع الجسد، والحفاظ على الروح: نظريات وحقوق البغاء» في بحث الحاجة الجنسية، والشهوة، والسلطة، والكراهية والإهانة للنساء من خلال التحليل الأثنوغرافي للخدمات الجنسية، للتعرّف عن كثب إلى نظام البغاء، والاعتبارات المادية للبغاء التي تحدد التنظيم المتعلق بالدعارة في علاقة سلطة الاستغلال الأساسية بين الرجال والنساء، بالإضافة إلى الإسهامات المتعددة للحركة النسوية لفهم تاريخ استرقاق النساء، والكشف عن العبودية الجنسية. فالبغاء، وفقاً لما تقوله «ملخّص للاغتراب»، و«بيع للروح». لكن البغايا يلجأن إلى استراتيجيات خاصة لتطوير الخدمة: «الجسد له زبون واضح، ومناطق خاصة واضحة، ما يُفسح للنساء والبغايا بيع أجزاء من أجسادهن كسلع مع الإبقاء على شيء من أرواحهن». في «النظرة المعكوسة»، يستعرض روث ووترهاوس تاريخ المثلية ورموزها المشفرة وتأثير الفوتوغرافيا في تكريس نظرة مضادة للجسد الملوّث، وتالياً لا جوهر رئيساً للهوية والمعنى، في محاولة لنسف النظرة الثابتة التي تقول إن جسد الذكر عزّز الإبداع الذكوري، في حين أن الجسد الأنثوي، من بدء الحيض إلى انقطاعه، يحول دون إبداع النساء. ويشير إلى أن النظرة ذكورية، بينما تستثنى النساء من نشاط التحديق. وبدلاً من ذلك، يمكن أن تكون النظرة إلى الأرض. لقد نفت سوسيولوجيا الجسد المرأة السحاقية بعيداً عن الاهتمام حقبة طويلة، قبل أن تستدرك الثغرات وترممها بدراسات جادة، من خلال الاتكاء على تاريخ الفوتوغرافيا والسينما ومذكرات النساء، وحتى أفلام البورنو، لقراءة جسد مراوغ ينزلق من بين الأصابع.