تسم علامات واحدة روايات كتّاب شباب لبنانيين، صدرت كتبهم عن «دار نوفل/ هاشيت أنطوان» (2018)، إذ تقدم الروايات صورة عن مجتمع متآكل ومتهتّك، تغزوه الأمراض ويُثقله اللجوء السوري والجريمة، يشتركون في خلاصٍ يائس عبر الموت أو الهجرة. تلقي الروايات الثلاث على الفن الروائي أعباء تحليل شاق، مضماره علم الاجتماع بشكل خاص. إذ لا يمثل الواقع مرجعية وحسب، وإنّما صورة للنقل الدقيق، أو للتهجّم عليه والكيل بهِ، لتصبح الكتابة انزلاقاً إلى هاوية أفسدتها نزعات نتنة. يتساءل القارئ؛ إلامَ تفضي هذه الصرخات الثلاث؟ وقد نسجت علاقات صلبة وشديدة مع الواقع، وتنكّرت، بتفاوت لا يُذكَر، للتخيّل، ضرورة أيّ فن. لا تفتح الروايات الثلاث النوافذ على حياة مرجوة أو جماليّة، وإنّما تذخر بدراما تمّجد الموت وتستعجل الأقدار والرحيل. لا يلتئم مسعى الكتّاب الثلاثة سوى في إرادة نبيلة تنصر الضحايا، وتوثق الآلام، وقبل ذلك. تجعل للواقع صورة قبيحة لا يمكن لمن يقرأها في قصصهم وعبر شخصياتهم ألّا ينكرها ويأمل التخلص منها، تجمع روح من الرفض نصوص الشباب، فيما تبدد هذه الروح رغبة شديدة بالمغادرة ورفع الرايات البيضاء.

في روايته «السقوط من عدن»، يتخذ الكاتب قاسم مرواني من مرض الفشل الكلوي مسباراً يكشف بهِ مجتمعاً يحفل بالانكسارات. يجعل الكاتب الموت تفسيراً للحياة، والجنس المكبوت دافعاً للقتل. يعبر الراوي جمعاً خاصاً ومحدداً، هم مرضى الفشل الكلوي في أحد مراكز غسل الكلى في صيدا، حيث الألم هو الرابط الأقوى الذي يجمع أناساً يعيشون على دماء الآخرين، يتألمون وينتظرون بصمت، بينهم عشاقٌ وحالمون. إلا أنّ طيف الذي يشكل موتهُ حدثاً، تتناهى إليه أحداث الآخرين، لا يتوقف عن تكرار جملة أحد العجائز «السقوط لا قعر لهُ». نلمح هذا السقوط في النص سياقاً لا يتوقف عن الانحدار، تخضع فيه الغريزة إلى ترويض مرضي، لينتج إنسان مُستلب أمام المجتمع ونظام الأعراف العام. تختلف دوافع الشخصيات المباشرة، إلا أنّ ما يجمع سلوكهم هو الهروب من الملل والرتابة، وتوق إلى حرية، يراها «طيف» متجسّدة في الموت، ويراها آخرون عبر تجارب جنسية أو من خلال السفر. يخلق القصة برمتها انتحار «راسيل» صديقة الراوي، والتساؤل الذي تركته لديه حيال الموت وما يليه، ومآل الإنسان وقد تبعثر في الكون. بينما يتأمل الراوي مرضى الفشل الكلوي في حديقة إحدى المستشفيات، يلفّق الكاتب حياةً ويلصقها بهم، لنجد في الحياة المُلفَّقة العبرات والشجون الإنسانية.
في روايته «لن أغادر منزلي»، يتخذ الكاتب سليم بَطّي من الهجرة موضوعاً يحاكي عبره قلق الانتماء والهوية والملجأ. تأخذ حياة بطلهِ شكل هروب مستمرّ لا يتوقف، من لندن إلى بيروت، ثم من بيروت إلى دبي، بعد إخفاقه في الدفاع عن خيار البقاء في بيروت وتعبه من وجع غير ذاتي، وإنّما ينتمي إلى جو عام من أخبار سرطان يأكل لبنان، ومن تفسيره المستمر للكنتهِ واسم عائلتهِ ولون عينيه. إنّه يملك الملامح النفسية لشخصية الأبناء الذين ضيّعهم الآباء، وراح يبحث عن دربٍ خاصٍ، يلمحه في بيروت التي عرفت ارتدادات حروب الجوار. يعمل مترجماً لشؤون اللاجئين، يقف بين عالمين، واحد أضاعته رفاهيةٌ ما، وواحد أضاعه العَوز، واحدٌ أتخمه الشتات الاختياري، وواحد أثقل ناسهُ شتات قسري جراء دورات عنف مجانية. الحرب هي نجمة النص، لا تتوهّج وإنّما تنوس في فضاءات موحشة وطائفية. يُشيّد عالم بطل الرواية من خيانات أبيه وانتقام أمه، وتفكيره على نحو كيدي ولا مبالٍ، تجاه أم متذمرة تتغنّى بإرث ضائع. فيما يبرز الدم ميثاقاً للغد والتشرد مصيراً، يبتكر الكاتب مفهوماً خاصاً عن الانتماء ويجعل منه انتماء لذكرى لا لمنزل أو لبلد.
يروي عبد الحكيم القادري عبرها أحداثاً عرفتها صيدا، مرتبطة بالإرهاب والمخابرات والموساد


في رواية «للموت عيون ملوّنة» للكاتب عبد الحكيم القادري، تمثل حالة مرضية هي «الصمت الانتقائي» سمة فضلى في النص، تُظهِر الإشراق الأخلاقي والفطري للطفولة، فيما تبرز قضية التحرش بالأطفال واحدة من أكثر القضايا جنوحاً ودرامية. يروي الكاتب حكاية عائلة تنوعت مصائر أبنائها وتناقضت ما بين الإلحاد والتشدد، السفور والحجاب، ما بين الغناء في الملاهي والصلاة في الجوامع. يحتشد النص بالكثير من الأحداث السياسية الاجتماعية، يقرأ الكاتب عبرها أحداثاً عرفتها صيدا، مرتبطة بالإرهاب وعمل المخابرات والموساد، في حبكة اجتماعية يظهر فيها القوي وقد استبدّ بالضعيف، والافتقار للحب منبع كلّ الشرور. كلّ من الظالم والمظلوم ضحايا ثقافة ذكورية، تمّجد العنف وتحتفي بالزيف، فيما الناس الحقيقيون يمضون إلى أعمار شقية ومأساوية.
ما بين القرى التي تستقبل الموتى الذين أهدرتهم المدن، وما بين المطارات التي تأخذ الأبناء؛ تنضج الذاكرة في الروايات الثلاث. بينما يعتبر مرواني غياب ذاكرة الإنسان بمثابة موتهُ، يفكر بَطّي بأنّ الهروب من الذاكرة يجنّب هلاك المرء بمرارة الفراق، فيما يجعل القادري من الذاكرة سجناً يصنع شخوص روايتهِ. إزاء المفاهيم الثلاثة، يرتق الأدب هذه الذاكرة، وتخرجها اللغة من مسارات النسيان لتجعل من كلّ ذاكرة جزءاً من وعي جمعي لأزمنة قاسية وموحشة.