من هذه الصورة أبدأ... من الموت، وفيها ننظر متقابلين لقبر رفيق استشهد في كردستان. الموت كان سبب أول لقاء مع فالح في الفاكهاني في بيروت ربيع عام 1971، وأنا في ذروة الدوار بعد ساعات من انتحار صديقنا المشترك إبراهيم زاير. وقف أمامي شاب عشريني ببدلة رصاصية. الوجه باغتني، كتلة من شعر منفوش، يريد أن يفلت من هذا الرأس المدوّخ. تحتها وجه أميَل للشحوب وعينان أكثر اضطراباً تزوغان دون استقرار. فاجأني الوجه والسؤال بلا مقدمات: كيف انتحر؟ سألته من هو، فعرفني بنفسه «فالح، فالح» كأنه يذكرني بأننا نعرف بَعضنَا بالبداهة. آه! أعرف هذا الاسم منذ زمن. كنّا في مدينة النجف، نصدر مجلة «الكلمة» التي صارت سجلاً للأدب الستيني. في كل مرة أسافر لبغداد، يوصيني الشاعر عبد الأمير معلة بإلحاح بأن التقي فالح وآخذ فصلاً من ترجمته لكتاب أندريه جيد عن ديستويفسكي. أذهب لمقهى البلدية، فأسمع أنه كان هنا قبل دقائق، البارحة، غادر قبل لحظات. كأنه يهرب من صداقة محتملة ستكلفه الكثير. التحقنا بالمقاومة الفلسطينية مع جيل من العراقيين، انتماء للقضية أو هرباً من بلد ينكر أبناءه. التحقنا في نهاية الستينيات وفي وقت متقارب وكنّا دائماً في المدن نفسها (عمان دمشق بيروت)، بل كنّا مرة في جبل واحد.. هو في كفر شوبا وأنا في حلتا. أسمع وأنا تحت عن عائلة عراقية تسكن بيتاً حجرياً يجاور قاعدة فدائية فوق، ويسمع فالح عن عراقي يكتب تحت شجرة تين، وربما تقاطعنا في الممر الضيق، في الضباب الذي يسميه اللبنانيون «غطيط»، لكننا لم نلتق، لأن الموت هيأ لنا مسبقاً فرصة اللقاء. انتحار ابراهيم زاير جمعنا لأول مرة وسط زقاق ضيق بين بنادق حراس المقرات. كنت شحيحاً في وصف تفاصيل الانتحار. دوخة الحادث في غرفتنا المشتركة وحرارته يبّست اللعاب في فمي وجففت كلماتي. وكان لجوجاً يريد أن يعرف كيف ولم اتخذ ابراهيم القرار، وماذا كتب في الورقة الصغيرة، وكيف رفع المسدس، فتح صِمَام الأمان وأطلق الرصاصة؟ في هذه الفترة، كان فالح يحرر مع قيس السامرائي مجلة «الشرارة» التي تصدرها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. يا للصدفة! كنّا معاً نكتب عن التجربة الفيتنامية. هو يكتب عن المناخ الثوري العالمي الذي يحيط بالتجربة معززاً أمل غيفارا (لتكن هناك أكثر من فيتنام واحدة!)، بينما أخذتني وأنا أكتب في مجلة «الى الأمام» تفاصيل الحياة اليومية للثوار الفيتناميين، تحركاتهم بين بيوت القصب، أنفاقهم، وطريقة قتالهم. وقد بقينا دائماً هكذا: هو يبدأ من الفكرة، وخلال التدفق، يستلّ المشهد لإسناد الفكرة، بينما أبدأ أنا من المشهد وأبني عليه صعوداً للوصول الى الفكرة، وغالباً ما لا أصل أبداً. الرصاصة التي أطلقها ابراهيم زاير على رأسه أصابتنا معاً. غيرت حياتنا. .
فصول كتبه مبوّبة حسب التبادل الجدلي بين بنى المجتمع وبنى السلطات السياسية

في ذروة التداخل أو التعارض بين الأفكار والفعل، بين أن تكتب أو تقاتل، وفي ذروة الانشقاقات باتجاه مزيد من اليسار، قررنا أن نتوقف قليلاً، نجلس على دكة في الطريق، لنسأل أنفسنا: إلى أين؟ عدنا إلى العراق في وقت متقارب. عملنا في مجلة «الإذاعة والتلفزيون» التي صارت منفى لمجموعة من كتاب يقفون في المساحة الخالية والمتحركة بين الوجودية والماركسية وعلى يسار الحزب الشيوعي العراقي. السلطة التي لا تؤمن بالصدفة أبداً تنظر لكل تجمّع باعتباره مدبراً، وله هدف ما؟ لتعرفنا حبستنا في بيت بغدادي في الصالحية، قريب ومعزول عن بناية الإذاعة والتلفزيون التي كانت دائماً المدخل الأول للانقلابيين في ساعة الصفر. حبستنا هناك وأرسلت مخبريها ليتفحصونا. يتسمعون أحاديثنا ويراقبون تصرفاتنا ويدققون في الشفرات الخفية في كلماتنا، فيصلون لنفس النتيجة: الغموض والفوضى. في هذه المجلة، اهتم فالح بمتابعة المسرح العراقي في فترة تألقه. على دأبه وشغفه بما يكتب ويبحث، كان يحضر كل البروفات قبل العرض المسرحي. يقرأ الكثير عن المؤلف والمخرج قبل أن يكتب مقاله النهائي عن العرض. ما زال رواد المسرح الباقين يذكرونني بذاك الزمن الذي رافق فيه النقد العمل، من البروفات الأولى، فيكبران معاً. بعد صدور مجلة الحزب الشيوعي الأسبوعية العلنية «الفكر الجديد»، صرت محرراً في الصفحات الثقافية مع الصديق المبدع فائز الزبيدي. وقد دعوت فالح للكتابة معنا. ذكرني يا فالح بما سمّته فاطمة «ذاكرتنا المشتركة»! رأيته كما هو دائماً، خلف طاولة الكتابة، يحفر بالقلم وباليد الثانية ينتف شعره ويلف الخصلات كأنه يخلط عصيدة أفكاره. حين رأيته في هذا الوضع، قلت لنفسي «تورط!» صحّت توقعاتي. دخل فالح الحزب من خلال الصحافة. لكنه كان مهيأ لهذا الدخول بحكم ثقافته الماركسية المسبقة وعلاقته السابقة باليسار الفلسطيني. بعد صدور الجريدة اليوميّة للحزب «طريق الشعب»، عمل في القسم السياسي في الطابق العلوي، بينما عملت في قسم التحقيقات في الغرفة التي تشاركني فيها فاطمة المحسن ورفاق آخرون. معاً كنّا نحضر الاجتماع اليومي لهيئة التحرير. كان لفالح خط رمادي في سحابة الدخان الثقيلة التي تجمع حيرتنا في وضع سياسي شديد الالتباس يخلط الشؤم القادم بوهم التفاؤل. وكان في مكتب طارق عزيز في جريدة الحزب القائد، رقابة خاصة تتابع كلماتنا بعدسة من الشك المسبق. مع تعدد الرقابات السيئة النيّة، انتقلت العدسات الى دواخلنا. ونحن نكتب نرى هذا الرقيب السيئ النية يقرأ كلماتنا قبل أن تسقط على الورق. في الجريدة تياران، تيار مرتاب من الجبهة مع «البعث» ويريد تصعيد النقد، وتيار يراعي حساسية «البعث» للحفاظ على الجبهة. لم يكن فالح من التيار الأول، لكن الحس النقدي داخله غلب طاعته، فنشر مقالاً عن حزب راستاخيز الذي أسسه الشاه، كتبه وفي باله الصعود القادم للفرد الواحد داخل الحزب الواحد. كانت هذه المقالة مقدمة للفكرة التي ستلازمه بتطور في العمق عن الدولة الريعية التي تبتلع المجتمع من خلال حزبها الواحد وأجهزتها البوليسية. لتدخل علاقتنا طوراً جديداً خلال تجربتنا مع الأنصار الشيوعيين في كردستان عام ١٩٨٢، وفي نظرتنا الى القبر الذي يتوسّطنا نوع من الذهول يتخلل هذا الاسترجاع لشهداء هذه التجربة التي انتهت بمجزرة بالغازات السامة في أول تجربة عالمية يستخدم فيها دكتاتور سلاح الدمار الشامل ضد أبناء شعبه.
غادرنا المدينة وشوارعها الهندسية المستوية إلى الجبل، متتبعين طريق المهربين. قبل الخطوة الأولى، تفحّصنا المهرب وهو يفصل بين الإرادات والطاقة. ببرود الخبير، حدّد بإشارة من اصبعه من سينجح في العبور ومن ستخذله طاقته. تفحص فالح، الذي أنهكه التدخين وسمّنته طبخات زوجته السابقة أميرة وتيبست مفاصله من الجلوس الطويل أمام الورق، وأصدر حكمه: «لن يستطيع العبور». تحت هذا الشعور بالخذلان، بدأ فالح يجرّ خطاه وهو يتحدث مع نفسه كمن يشتمها على هذه الورطة. نصعد، نتمايل وقد فقدنا التوازن ونتساءل بغضب: لم خلق الله الجبل بهذه الوعورة ليعذب الإنسان؟ نتعثر فنمسك بالصخور التي تخذلنا، نتمدد وقد خذلتنا إراداتنا فينهرنا الدليل: ستفقدون الحرارة فنسير فزعاً، بيننا بغل يحمل كتبنا التي تتصل بمشاريعنا القادمة. في الممر الضيق الذي يتسع لخطوة واحدة، انزلق البغل الى الهاوية وبقي متشبثاً بالحافة بحافر واحد. لم نر، أنا وفالح، شكل الموت القادم كما رأيناه في وجه ذلك البغل وقد ارتجف كل ما فيه وانقلبت شفته ودارت حندورة عينه متوسلاً مصيره بإلحاح بدلاً من التعلق بحافة الحياة المطلة على الهاوية. تعلقنا معاً بهذا المصير في اللحظة الحاسمة ونسينا كتبنا... المهرّب الذي يرتبط رزقه بهذا الحيوان تناول السكين وقطع الوريس فتهاوت كتبنا نحو الوادي السحيق وهي ترتطم بالصخور: تباً للأفكار! يمكن اختلاقها أو تذكرها، المهم أُنقذ البغل. طوال الطريق، بقي المهرّب ينظر لنا برثاء واعتذار ويعدنا مقسماً باستعادة الكتب، ووفى بوعده بعد يومين قبل أن نضع أولى الخطوات على جلد الجبل، سبقتنا سمعتنا كمحترفي ثورات (مع المقاومة، مع البوليزاريو، الكتابة عن فيتنام التي زارها فالح بعد التحرير...)، لكن حين نزلنا من قنديل إلى أول قاعدة للشيوعيين الأنصار في «ما وراء الطواحين»، انكسرت الصورة النمطية في خيال الرفاق الذين لم يرونا من قبل. كنّا في حالة يرثى لها، من التعب والبهدلة. نتعثر بخطانا، نتكئ على جدار الجبل بعد كل خطوتين، «البشاتين» التي يلفّها الكرد الجبليون حول خصورهم بدلاً من الحزام، تُسحل خلفنا على الأرض ونحن نلهث من تعب الطريق وقد تهرأت في أقدامنا أحذية المدينة. رثاء أو إحساساً بالجميل أهدانا الرفاق أول خيمة ومعها فانوس: هذه ستكون بيتكم! في الجبل، كنّا نكتب وننام على فراشين متجاورين. أنام وأصحو وأجد فالح إما يكتب ويدخن، أو ينام وهو يشخر من التعب. لم يكن بعض الرفاق يفهمون أن الكتابة لإذاعة الحزب وصحافته هي عمل. العمل هو فعل عضلي والكتابة بالنسبة لهم فعل استرخاء. في الجبل وفي الخيمة، بدأ فالح بحثه عن الإسلام السياسي الشيعي مستفيداً من المقابلات التي أجريناها معاً لقادة الأحزاب الدينية الذين حكموا العراق بعد ٢٠٠٣. خلال عمله محرراً لمجلة «النهج» التي تبنى فخري كريم إصدارها من دمشق ابتعد فالح أثناء البحث عن السياسة المباشرة، وصار يتوغل في البعد الاجتماعي التحتي لظاهرة الإسلام السياسي. بدأ موضوعه هذا في الجبل، وكان ماركس حاضراً على الدوام الى جانب فراشه قريباً من الموقد الذي يتغذى من أشجار البلوط والعفص. منه ومن قراءاته الأدبية، تعلم فالح الاستخدام البارع للاستعارات الأدبية من شكسبير وديستويفسكي وغوته وماركيز. أحب وقدّر عالياً كتابات علي الوردي عن المجتمع العراقي، فحملها معه الى الجبل؛ لأن الروائي المضمر داخله أحب من الوردي حكاياته.

«كتاب الدولة... اللوياثان الجديد»، ختام مدهش لبحوثه عن العراق، به يكمل علي الوردي وحنا بطاطو

كان فالح روائياً قبل أن يصير باحثاً. ولاستعادة ذلك الروائي في داخله، كتب رواية عن بيئته الشعبية في محلة باب الشيخ في بغداد. كان يقرأ لغائب طعمة فرمان ولي مقاطع منها في بيته في المساكن في دمشق، سَمِعت زوجته أميرة، وهي في المطبخ، ما تخيلته يمس عائلتها فدخلت غاضبة. غَضِبَ فالح من غضبها، فأحرق الرواية أمام أعيننا المنذهلة بسلاسة اللغة ودقة التفاصيل. لم ننجح، لا نحن ولا أميرة، في إنقاذ بقايا الرواية. انتهى فالح الروائي، لكنه بقي مضمراً يظهر حين تحتاج الفكرة للاستناد لواقعة حيّة. صحيح أنه أحب الوردي لكنه خالفه؛ لأنه كماركسي قرأ «سوسيولوجيا الدين» لماكس فيبر، لذا لم يُؤْمِن بالطبيعة الثابتة للمجتمع، وفصول كتبه مبوّبة حسب التبادل الجدلي بين بنى المجتمع وبنى السلطات السياسية، وهي تتغيّر وتغيّر في الوقت نفسه. فكرته أيضاً تتغير خلال الكتابة وهي تنزل للظاهرة، والنص يعاند أو يتوغل بحثاً حين تفند الواقعة فكرته، وبينهما يتوه فيسرف في التدخين وينتف شعره ليغير الفكرة أو الواقعة.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بقي فالح عبد الجبار مشغولاً بالعراق بحثاً وكتابة. في مكتبتي أكثر من ثلاثين كتاباً له، تأليفاً وترجمة، أكثر من نصفها عن العراق وحوله. كتابه الأخير «كتاب الدولة... اللوياثان الجديد»، ختام مدهش لبحوثه عن العراق، به يكمل علي الوردي وحنا بطاطو. بحث معمق في الأسس الاقتصادية والسياسية للاستبداد الذي حكم العراق وانفصال العلاقة بين الدولة والمجتمع. لم يعتمد فالح على المراجع العراقية والأجنبية وحدها، إنما صنع أيضاً مراجعه الخاصة من خلال المقابلات والبحث الميداني. مرجع لا غنى عنه في التاريخ والبحث الاجتماعي، وبلغة مليئة بالاستعارات الأدبية. في بغداد الستينيات وفي لبنان المقاومة، في الجبل مع الأنصار، يمشي فالح دائماً إلى الأمام ورأسه أكثر انحناء إلى الأرض ولا يلتفت للماضي. لم يكتب مذكراته عن تجربته الفلسطينية أو الجبلية ولا الشيوعية. حتى في كتابه «الهورلا» عن الحرب في لبنان، لم يعد فالح إلا لماماً لتجربته الفلسطينية في السبعينيات، ولا لتجربته في الأنصار. يمشي تاركاً الماضي خلفه، بحثاً وكتابة، يلهث ويتعثر، لكنه يصل في النهاية لمشروعه التالي. فالح هو مشروع مستقبلي، يرى الماضي باعتباره امتداداً للآتي، يذهب اليه وهو يتعثر حتى كبا كبوته الأخيرة.

* روائي عراقي


انسيرت:
انسيرت2: