الرجوع الى الديار، الى تلك الأنحاء المثمرة وحيث الثمرة قرب أختها وحيث النغمة تتبع السابقة، ولا ضرورة لأن يتعرف الناطور من أنت وأي حال هي حالك. وكيف أنت صرت من مطرح الى مطرح، ومن لون في خديك الى التالي، الى النبع، الى الساقية. وهنا تقطف الجرجير أو تقطف القافية من موضعها البعيد آناً وجارك يتطلع إليك آناً. أو هو القلم حين تأمره يقفز من قمقم الكسل ويصعد اليك كما يفعل الأطفائي. وكما يفعل العصفور الذي يرفرف لك حين لا بارودة وحين لا أذى وحين لا موت.
وهكذا أنت لكل سؤال جواب وكل شوكة وأنت في عافية وفي هالة الخير وحبات البركة.
وهكذا أنت في تلك السنوات في بحرها الذي يأخذك الى أسراره الى تلك القصائد. الى تلك الحلقة «حلقة الثريا» والمؤسسون هم : إدمون رزق، جورج غانم، ميشال نعمة ثم أنا.
والى مجلة «شعر»، وهناك الأغصان وهناك البراعم، وهناك يوسف (الخال) وأدونيس، وهناك في كلتا القبلتين أنت القادم نحو الجميع، ونحو الذين كل على صهوته، على الراحلة وعلى الرحل وعلى الكلمات. ولا نسيان ولا ضرورة لأن تترك أنسي الحاج الذي في جريدة «النهار»، ولأن تترك الصحب لأوائل وما هو القدر قدرك وما هو المآل مآلك وما هو المكان مكان الشغف والقبض على الجميل وعلى اللذيذ وعلى كل ما يخلبك ويجعلك مطمئناً وفي فوران نافورة السعادة والإقبال على ما ينام في صدرك.

كان فؤاد كنعان يراني قادماً
من حقل الموهبة الأخرى وحقل
الجِدّة وحقل الصوت الذي له
الطابع الأكيد
ولا بد ان تطلع الشمس عليه وأن يتبدى القمر عليه وعلى الورقة، على دفترك وعلى قلبك أن ينفتح وأن يكون الأقحوانة المختبئة في الأعماق وفي دمائك وفي دماغك وفي الخيال وفي آلاف الأشباح.
وفي 1959 كانت لي مجموعتي الأولى «أكياس الفقراء»، وهي صدرت في مطبعة رفيق الخال شقيق يوسف، وأما يوسف فهو الذي طبعها لي، وكانت الأولى في مؤلفاتي، ويذهب حناني إليها إلى أوزانها، إلى عبيرها، إلى نظافتها من الزائد وخلوّها من وطأة الناقص. وهي المقدمة وهي العبير الذي نمّ من عندي، من ثيابي ومن ثناياي. وهي جعلت الدكتور جميل جبر آنئذ أن يضعها في محاضرته «صوت الأدباء» من منبر «الندوة اللبنانية»، في مرتبة الأمثال، أي أنها من علامات التجدد عبر الشعر الحديث، وأنها تذكر إحدى ثلاث، موفقة مثل «نهر الرماد» ومثل «البئر المهجورة»، والموعد والإلقاء كانا في 21 آذار سنة 1960.
ولا معي شيء، في ذلك الزمان، سواها، وهي البكر في صناعتي. وفي طريقي الى الشراب وإلى أن أستقي وربما أنا على حافة ينبوع وسرت بها وسارت بي الى الحلبة وإلى أن أنحرف كما في سفينة عن الصخور القاتلة، وعن الأتباع، وأن أنصرف بها الى الرحابة، الى الجسر، أي جسر وأمتد وأن أكون الأخضر الذي يعربش على الجدار وعلى النافذة، وإنما وأنا أخلو في نسيجي من عنكبوت التقليد. بل وأنا أخلق وأصنع وأغزل بساطي وألفّ زوّادتي. وأنا في ذلك الزمان، أعي أنني لن أندم ولن أكون الذي يأسف والذي ينكسر زجاجي من حجر أو من ثور هائج، أو من غلطة في القيادة وفي اندفاعي وفي أن أخسر المباراة، وأن أحصل على الخيبة. بل حصلت على اليقظة وطارت الآية من الكتاب وطارت الحقيقة. وإذا في الميدان أنا و«الأكياس»، ويقول إدمون رزق في سهرة محتشدة أخيرة أنها مجموعة ما زالت ترن بناقوسها الكريم وأنها ناصعة لا تزال، وأنها تختصر المشوار الطويل، وما أطول ما هي في البال وفي المسار القائم والمزدحم بالقليل من المقام ومن الرضى على طاولة النقد والتجاوب الذي يظل ملتهباً شعلة في قافلة الحداثة النادرة الحدوث وحيث لا أفول وحيث النجمة هي النجمة. وحيث يقول الشاعر عقل العويط عنها في الطبعة الثانية منذ أمد، في بيروت أنها لذيذة ويضيف إليها «خطوات الملك» مجموعتي التالية عن دار «مجلة شعر»، واللذيذة أيضاً، وحيث يقول الشاعر عبده وازن ناقداً أن «أكياس الفقراء»، و«خطوات الملك» يكملان التجليات الساحرة عند الشاعر.
أكياس إنما تصلح جلباباً وتصلح أن تكون بُردة الأغنياء، وما ألطف القماشة التي صقلتها السنون وصارت لتباع في أسواق المذاق وتحت قناطر البيان وركام البهارات، وملح البقاء على المستوى الرائق ومهما أسرعت السرعة وارتفع الدخان وارتفعت أسراب الفقراء من حروف جامدة الى جنان الحرية وسماء المعرفة.
***
وفي حديقتي، زهرة اسمها التأملات وزهرة اسمها الحقيقة دائماً أسقيها من العرق الذي يسرح على جبيني وعلى ثيابي. وهي تفوح لي وترغمني بل تدفعني الى المكاشفة والى النطق والى القول. وهكذا، هنا وفي السياق الذاتي كان لي الأديب فؤاد كنعان وهو، في مجلة «الحكمة» حين تسلمها، قدّمني الى القارىء والى الملأ. وهو نشر لي القصيدة الأولى. وحين التعارف كان الترحاب بي شاعراً يختلف في نصه عن الذين من قبلي، وعن الذين زينوا الشعر للبناني والشعر العربي بالزينة التي عندهم. وكان كنعان وهو قاص ومترجم لامع، يراني قادماً من حقل الموهبة الأخرى وحقل الجِدّة وحقل الصوت الذي له الطابع الأكيد وله الطموح الذي يرنو الى البعيد، الى أسرار والى ضربات والى أنواع من السمو فوق الواقع الأدبي المألوف.
وهو كنعان الذي رحل كان الذي اشتغل في قضايانا وفي إنتاجنا وفي إنبلاج فجرنا، والذي ساهم في بسط أفكارنا اللبنانية، وفي الكتابة الروائية، وفي الإبتداع وفي أن يطرحه وفي الحركة الفكرية عامة. تلك الحركة التي جعلها مستمرة وقادرة على النمو حيث هي، وعلى الإنبعاث وعلى البحث عن الشيء الذي يفوتنا وعلى الصغرى والكبرى من العمل والنشاط من أجل كل ذلك، وفي سبيل الحصول على حصاد جميل.

صدرت مجموعتي الأولى
«أكياس الفقراء» في مطبعة رفيق الخال شقيق يوسف عام 1959، وأما يوسف فهو الذي طبعها لي


وفي الحديقة الخاصة، أننا في حلقة «الثريا»، وأنني من بعد في مجلة «شعر»، كانت مجلة «الحكمة» إحدى الوسائل، إحدى الأدوات الطيبة الأثر، ومعها نضيف حالة من الثقافة قامت في بيروت وفي بعض المناطق ولاسيما عبر الصحافة وعبر الإذاعة. لكنها حالة من الخصوبة دون ما أتى بعدها من الألوان ومن الفتوحات المتعددة والسائرة في نطاق أوسع، نحو المصير الأقوى والذي يتطلّب ما لم يكن موجوداً ولم يكن منتشراً حتى الإمتلاء.
وأنها كلمة لا مفر منها قبل أن يطلّ كتابي «أكياس الفقراء»، تلك الفتاة أو ذلك الشاعر الذي راح يغني وحده بضع سنين. ثم أفلح في الإنضمام الى الآخرين، الى روح الجماعة. وكان أنه مضى الى حيث النجاة، وحيث الصورة ينبغي أن تكون واضحة المعالم وجيدة الإطار. وحيث بدأت وبدأنا وحيث شرعت وشرعنا في الزرع وفي بث النظرات الدقيقة، وفي أن نلبس الدرع أو القليل من الثياب، وفي أن نصرخ وتصفق لنا البراري، وفي أننا لا نضيع في القفر، كما لا نضيع وسط الواحات أو وسط المدينة، أو وسط أي عائق محتمل الجبروت أو محتمل البقاء.
وكان الإنفتاح من مواقعنا، وحدث ذلك لي قبيل «أكياس الفقراء»، والآن هو لي كأنه الى خلود والى متعة يحتويها. وعلى غير العادة هو المتقن الإيحاءات والذي يرفل في سعادة ما إنما تعكس ذلك الزمان الذي عشناه وكانت الغاية أننا صادقون، وأنني أنزع الى قراءته والى احتضانه كل مرة، ولا ندامة لأنه أشبه بالترانيم، وبموسيقى ناعمة الأوتار وبجلسة من الحميم المطلق في الفضاء المطلق والريان.