عنوان الكتاب «آيزنهاور 1956 - سنة الأزمات، السويس وعلى حافة الهاوية» يشير إلى الجنرال دوايت آيزنهاور، الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية، متعاملاً مع مرحلة رئاسته في العام الأكثر تعقيداً. إنه العام الذي شهد تأميم الرئيس جمال عبد الناصر شركة قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر الذي أعقب ذلك، وتألق الحركة القومية العربية اليسارية المعادية للاستعمار في الجمهورية السورية وتأسيسها علاقات وطيدة مع الاتحاد السوفياتي والصين والدول الشيوعية. تضاف إلى ذلك مجموعة من الإجراءات الاقتصادية التي تحد من سلطة الإقطاع وحيتان الرأسمال المحلي حينذاك.الأحداث التي يغطيها الكتاب تقع بين فترة تسلم الجنرال آيزنهاور الرئاسة عام 1953 وتنتهي في عام 1956 الذي اتخذ فيه قرارات حاسمة بخصوص حليفتيه الغربيتين بريطانيا وفرنسا.

حينها، حاولت الدولتان استعادة نفوذهما في بلاد الشام عبر العدوان الثلاثي الذي تم بالتواطؤ مع العدو الصهيوني، ما اضطره إلى اتخاذ موقف حاسم من العدوان، أدى إخفاقه إلى انتهاء بريطانيا كدولة عظمى واستحالتها دولة تابعة لواشنطن. كما كان عليه اتخاذ قرار بإجبار العدو الصهيوني على الانسحاب من سيناء وما كان يسمى قطاع غزة الخاضع للإدارة العسكرية المصرية، لكن بثمن باهظ دفعه الشعب الفلسطيني ومن ذلك السماح لسفن العدو بالمرور عبر مضيق تيران ومنع الفلسطينيين من تنفيذ عمليات فدائية في وطنهم المغتصب.
من خلال تتبع تلك الأحداث، يتعرف القارئ إلى مجموعة من الأحداث غاية في الأهمية، وفي مقدمها أن موسكو وواشنطن كانتا على حافة الحرب النووية بعدما وجه خروتشوف إنذاره الشهير للندن وباريس وتل أبيب بوقف العدوان على مصر والانسحاب من أراضيها. وهذا ما يثبت الدور الأساسي الذي مارسه في وقف العدوان حيث يحاول البعض، ممن يعانون حالة إنكار مزمنة لا شفاء منها، منح واشنطن فضل الانسحاب. ويورد الكاتب معلومات موثقة عن الدور الحاسم الآخر الذي أداه القوميون العرب في سوريا عبر نسف خط نفط العراق وحرمان المستعمر من مصدر طاقة أساسي.
كل هذه التطورات قادت الجنرال آيزنهاور في نهاية المطاف إلى إعلان مبدئه «مبدأ آيزنهاور» الذي أعد لمواجهة نمو النفوذ القومي العربي والرئيس الراحل عبد الناصر ومواجهة سياسته القائمة على «الحياد الإيجابي» وغير ذلك. ومن نتائج ذلك التدخل الأميركي في لبنان بناء على طلب كميل شمعون الذي استجاب لأمر واشنطن بالخصوص!
الكاتب ديفيد نكلز، وهو أستاذ تاريخ متخصص، يشدد على شخصية الرئيس الأميركي الجنرال آيزنهاور، ومقدرته على متابعة كل أمور الدولة، رغم أنه عانى في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1956 من أزمة صحية ناتجة من تعافيه المضطرب من الجلطة القلبية التي أصابته في خريف عام 1955، وإصابته بسرطان القولون.
كما نعلم من المؤلَّف تفاصيل مهمة عن العلاقات بين مختلف أقسام الإدارة الأميركية المتخصصة في العلاقات الدولية، أي بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات الأميركية، بل وحتى مكتب التحقيقات الاتحادي وغيرها، وأدوارها في رسم سياسات واشنطن الخارجية.
من هذا المؤلف الثمين، نعلم عن التناقضات بين الحلفاء وعلاقات الدول الغربية الرئيسية مع واشنطن، التي يتبين أنها علاقة التابع بالسيد. نقرأ أن الجنرال آيزنهاور، الذي كان يأمل كسب ود الحركة القومية العربية التي آلت قيادتها إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بفضل شخصيته الساحرة المرافقة لرفضه إملاءات واشنطن ولندن وباريس خصوصاً بالعلاقة مع تمويل مشروع بناء السد العالي وتأميم شركة قناة السويس، رفض تزويد العدو الصهيوني بالسلاح مباشرة، لكنه لجأ إلى الباب الخلفي، أي أنه «أذِنَ» لفرنسا ببيعها.
في الوقت نفسه، نقرأ أنه عندما عانت بريطانيا نقصاً في إمدادات النفط الحيوي لاقتصادها وتوقف تدفق النفط من العراق بفضل نشاط القوى القومية واليسارية العربية في سوريا، بعد عدوانها على مصر وإغلاق قناة السويس، رفض الجنرال آيزنهاور خططاً مستعجلة وضعتها إدارته لتزويد لندن بحاجاتها النفطية التي كان احتياطها لا يكفي لسد حاجاتها أكثر من ثلاثة أسابيع. حينها، طالب مساعدوه بالانتظار «لشد أذن القيادة البريطانية وتأديبها» بعدما خانت واشنطن وتآمرت من دون العودة إليها واستئذانها. وقد وصف الرئيس الأميركي الجنرال آيزنهاور التصرف البريطاني وقتها بأنه خيانة وغدر. كذلك، نقرأ عن تفاصيل النقاشات والتجاذبات بين القاهرة وواشنطن بخصوص القضية الفلسطينية وفرض اعتراف العرب بشرعية قيام كيان العدو العنصري وبقائه، ومدى استعداد الأولى للسلم مع تل أبيب.
نلاحظ هنا أنّ الشرط الأساسي الذي وضعته واشنطن لتطبيع علاقاتها مع القومية العربية اعتراف الأخيرة بالأمر الواقع في ما يخص فلسطين، وهو الشرط نفسه الذي صادفناه من قبل، الذي لا يزال قائماً إلى يومنا هذا. يحوي الكتاب معلومات تفصيلية مهمة عن التواصل المستمر بين واشنطن والقاهرة بخصوص الصراع مع العدو الصهيوني وسعي واشنطن لإقامة سلام بينه وبين العرب، وكيفية تجاوب القاهرة مع تلك السياسة والتفاهمات التي توصلت إليها مع واشنطن في هذا الخصوص.
كما نقرأ عن توجيه الرئيس الأميركي أمراً لكل من لندن والرياض لإنهاء الخلاف بينهما بخصوص «واحة البريمي» بهدف توطيد التحالف الاستعماري المعادي للعرب ودعم حلف بغداد والتحالفات الأخرى المعادية للشيوعية بقيادة واشنطن. يرى الكاتب أنّ الأزمة الدولية الكبرى الأخرى التي واجهت الجنرال آيزنهاور هي قمع الاتحاد السوفياتي الثورة المضادة في المجر.

معلومات موثقة عن دور القوميين العرب في حرمان المستعمر من مصدر الطاقة
لكن هذا غير صحيح لأنّ الأخيرة كانت تقع ضمن نفوذ موسكو وفق اتفاقية يالطا لتقاسم النفوذ في العالم، وما عرف آنذاك بـ«اتفاقية المقادير المئوية - Percentage Agreement» التي خطها تشرتشل بنفسه ووقع عليها ستالين.
كما نقرأ في الكتاب أن الجنرال آيزنهاور، بعدما فقد الأمل من إجبار سوريا على الانضمام إلى المعسكر الأميركي المعادي للشيوعية، وجّه تعليمات لرئيس أركان الجيوش الأميركية حينذاك، بوضع خطط حرب في الشرق الأوسط، لوقف تمدد النفوذ المعادي لأميركا في المنطقة، تتضمن احتلال سوريا.
ونعلم أيضاً أن الرئيس الأميركي كان قد أمر إدارته بوضع دراسة عن تأثيرات حرب نووية مع الاتحاد السوفياتي. وقد بينت أن الثمن ـــ حتى في ذلك الوقت ـــ سيكون الدمار الهائل في الولايات المتحدة، الذي سيفوق مقدرتها على مواجهته. وهذا ما دفعه إلى سلوك سياسي أقل عدوانية تجاه موسكو، وليس حباً بها. من المعروف أنه وقف، هو الذي يشار إليه على أنه بطل الحرب العالمية الثانية (وليس فقط بسبب أداء القوات الأميركية في شمال أفريقيا) مع الزعيم البريطاني ونستون تشرتشل ضد فتح جبهة غربية على ألمانيا النازية، وكان رأيهما: دع الطرفين يقتلان بعضهما بعضاً. ومع أن أزمة الكويت اندلعت في وقت لاحق، إلا أن الكتاب يتعامل مع المسألة، دوماً اعتماداً على المراجع الرسمية، وينوه إلى أن واشنطن كانت لا تمانع في ضمها إلى الجمهورية العربية المتحدة، وخصوصاً بعد حملة الرئيس جمال عبد الناصر الدموية ضد اليسار والشيوعيين، ما منحه رضى واشنطن. كما يوضح الكاتب أن واشنطن لم تكن متحمسة لبقاء نظام الملك حسين في الأردن، وكان تحبذ إسقاطه بدلاً من الاستجابة لتوسلاته وتسوله الدائم المدعوم من لندن - المفلسة اقتصادياً. هذا بعض مما يرد في الكتاب الذي وجب اعتماده مرجعاً مدرسياً أساسياً لتلك المرحلة الحاسمة من تاريخ سوريا والمشرق.