يشي عنوان رواية علي بدر «عازف الغيوم» (منشورات المتوسط) الجديدة برهافة وشفافية بطلها ذي الاغتراب المركب، فهو يجسد نموذجاً للفنان ضحية الذات والآخر في وطنه. ذلك الموسيقي الذي يعزف على آلة التشيللو تجنح به أحلامه عالياً ليواكب الغيوم هجرة وهطولاً، وليروي روحه الراقصة على شغاف اللحن في محيط يعاني الجفاف والقحط الروحي. سرعان ما تصطدم هذه الشخصية الحالمة بواقع مضاد وقهري، حيث شراسة المتشددين وإهاناتهم لعمله، وفهمهم المشوّه للدين والحياة والعنف المتأتي من رواسب نفسية وتقاليد صلبة. لا يترك هؤلاء لبطل الرواية متنفساً أو خياراً آخر للحياة، فتضيق دائرة حصاره في وطنه ثم ما تلبث أن تلاحقه إلى منفاه أو بلدان اللجوء لتطبق بخناقها عليه وتدفع به لإعادة طرح أسئلة الوجود المحيرة: من أنا؟ ومن الآخر؟ ما الذي يجمعنا وما الذي يفرقنا: الانتماء لبشر؟ أم لجغرافيا؟ أم لعقيدة ما؟ تلك نماذج عن الأسئلة الكامنة في الفضاء النفسي لبطل العمل، ولعلها كانت الحافز للبحث عن جواب لها في عالم بديل، عندما يقرر الرحيل إلى الغرب حيث الحرية والانفتاح وإطلاق العنان للموهبة والطموح. هكذا، يهاجر عبر قنوات مافيا المهربين نخاسي العصر الذين تزدهر أعمالهم طردياً مع أزمات البشر وحصارهم الخانق. يهرب رغم حساسية الحوار الذي جرى بينه وبين والده. يلخص هذا الأخير رأيه لابنه بتجربة العم الذي سبق أن عانى من وطأة الحنين وشعور الذنب: «ستذهب إلى مكان بعيد لتظل تحلم طيلة عمرك بالرجوع إلى مكانك الأول كما كان شأن عمك» (هنا يعيد للذاكرة قول اليوناني كافافيس: «وتقول لنفسك سوف ترحل.../ إلى بلاد أخرى إلى بحار أخرى/ إلى مدينة أجمل من مدينتي هذه/ لا شيء يا صديقي هناك/ لا أرض جديدة ولا بحر/ فالمدينة سوف تتبعك/ وفي نفس الشوارع التي همت فيها/ سوف تهيم إلى الأبد/ فلا سفن تجليك عن نفسك»).
زمن تختلط فيه المعايير وتلتبس المفاهيم بين الاحتلال والتحرير
دراما الاغتراب بين الوطن والمكان الآخر تأخذ مداها الأقصى في المكان الموحش المخصص للمهاجرين في غيتوات لا تختلف كثيراً عن تقاليد القاع الذي يفترض أنهم هربوا منه! هم يتشابهون في نمط حياتهم وطقوس سلوكهم وعاداتهم مع أولئك المتشددين الذين هرب منهم وبسببهم، وخاصة ما يتعلق بالتدخل في تفاصيل حياته من لباسه إلى صيامه وحتى إلى علاقته الحميمة مع فاني البلجيكية وإخضاعه لعرفهم الخاص بحكم انتمائه لمنظومة التصنيف الديني الذي لا يلتزم به.
المشهد البصري السينمائي بالغ الدلالة الذي يتكرر مع عازف التشيللو بين الوطن والمنفى هو قيام سدنة المعبد بتحطيم آلته الموسيقية أمام بيته مرة في موطنه، ومرة أخرى في حي المهاجرين الأجانب في بروكسل من قبل جماعة مشابهة من متشددين محملين بعقيدة التطرف الديني. هذه المطاردة الكابوسية التي تلاحقه أينما حل وحيثما ارتحل، تجعله يحاول الانتماء بكليته إلى المجتمع الغربي، وتحرضه أحلامه مرة أخرى على الاندماج فيه وفي نشاطاته ليتهور في مؤازرة تظاهرة لليمين المتطرف تدعو إلى رفض الغرباء واللاجئين بتشدد معاكس شوفيني وعنصري. من جديد، يصطدم برفض هذا المحيط له وتهشيم أضلاعه، ذلك أن هذا الطيف لا يرى فيه إلا غريباً جاء ليعتدي على رفاهيته ويقاسمه مكاسبه مهما أبدى من حسن النوايا. هنا تأتي مفارقة أخرى حيث يبدو المتطرفون القدامى في وطنه الذين كسروا آلته الموسيقية، هم منقذوه هذه المرة من التطرف المضاد. هو الهارب منهم على أمل الاتساع واحترام الآخر في ذاك البلد، ليفاجأ بالتنوع في أشكال التشدد والتطرف.
في دوامة هذه الدراما، يعيش الفرد المعاصر فاقداً نقاط ارتكاز لثوابته النفسية والفكرية في أن يكون فاعلاً ومؤثراً في بيئة ما على هذا الكوكب، إذ أن المهاجر الشرقي اليوم هو أكثر الكائنات ضياعاً.
ولعل اعادة استحضار الفارابي ومدينته الفاضلة وقدرته على التأثير بالنفس البشرية من خلال اتساق هارموني للنغم هو ايحاء ضمني لرؤيته كنقيض للأصوات الناشزة معنى وتأويلاً. لا يبدو علي بدر مبشراً في روايته بأي بدائل للمعضلة التي يقاربها، كما أنه لا يرسم ظلالاً لأي أيديولوجيا معاكسة سوى حب الحياة النابضة بالعشق جسداً وروحاً، عنوانها غسيل الروح بالموسيقى لإزاحة «السقط الفحمي من القلوب... الموسيقى التي تحول الكلمات المبهمة الى معاني». إذاً، إنها الحياة باتساع معانيها النقيض لفلسفة التكاره واجترار عناوين الالغاء من مساحة الظلام، الحياة النقيض لكارهي الحياة تلك هي المعادلة المضادة بأبسط ما يكون.
لا ينسى علي بدر توجيه سهام نقده تجاه ما يسمى بالحثالة أو الطبقة الرثة التي تتلون وتتشكل حسب الظروف، هذه الفئة التي تسيدت المشهد اليوم هي ذاتها التي طالما هللت للديكتاتور بالأمس وكانت أول المهللين للواقع الجديد بعد الاحتلال. هذا الإقرار بواقع الاحتلال واضح في عمل علي بدر، في زمن تختلط فيه المعايير وتلتبس المفاهيم بين الاحتلال والتحرير.
رواية «عازف الغيوم» التي لم تتجاوز صفحاتها الـ 112 صفحة بدت محتفية بمعناها وغناها وجاءت بعيدة عن الحشو والتكرار ومتجنِّبة للإطالة كما نأت عن التكلف والافتعال بلغة سلسة وشيقة في آن. رواية تعتمد على كثافة الفكرة للتأكيد على أن أهمية المادة السردية تكمن في الاحتشاد النوعي لا في الكم وازدحام الأوراق.