/1/
ماذا قد تفتقد الأنثى في كونها ليست رجلاً؟
حواديت الرجال عن سنوات التجنيد الإجباري،
متعة النظر خفية إلى نهدين جميلين،
شجارات بالمُدي وتشوهات مستديمة،
أو خلوّ حديثها من وصف الاستدارات،
انتصابات لا إرادية في حضرة فتنة،
أو الصحو على قذف،
الدعس على الكنايات وصولاً للمعنى،
أهي تلك القدرة الحرة البسيطة على الخيانة،
أو حمل السلاح، أو القتل، أو الإبحار؟
ربما لا شيء حقاً،
اللهم إلا بعض مهارات، قابلة للتعلم؛
إشعال سيجارة في هواء عاصف،
النوم مباشرة بعد المضاجعة،
أو البصق لمسافات أبعد.



/2/
عندما كنتُ، بشكلٍ دوري، قطةً مدهوسةَ، تحت عجلات عربة قديمة، كنتَ أنتَ، ما تزال، تسرقُ السيجارةَ، تلو الأخرى، من عُلب أبيك المستوردة، تدخنها على عجل، ثم تطفئها في سطح مكتبك «الصاج»، وأنتَ تعلم أنها لن تترك أثراً، وتطارد الدخان كالمجنون، ترقص كالغوريلا، كي يعود الهواء شفافاً من جديد. وبعثتُ أنا ثانية؛ عنقاء، بأجنحة خيالية، دوماً كنت أعود، ورغبة في تخطي الحاجز الخشبي، النفسي في جيب ثوبي. وعندما رأيتُ صورة الله «المؤقتة» على سقف الغرفة، طليتُ السقف، مرة تلو الأخرى، وأشرعتُ النوافذ، حتى لا تقتلني الرائحة، ثم مشيتُ في شوارع مدينتنا، أتأرجحُ، ونسوةٌ في ملابس الحداد، خلف الأبواب، ونسوةٌ في ملابس النوم، خلف الأبواب، ونسوةٌ يتطهرن من مضاجعات كالدنس، ليس يمحو الماءُ أثرها، خلف الأبواب أيضاً. ليس في مدينتنا حانات، لكن بشرها يعرفون طرقاً متعددة للسُكْر، أسرعتُ الخطى لما مررت بسرادق للعزاء، تجاهلتُ تلاوةَ الموت بصوتٍ مرتفع في مُكبرات الصوت، وتذكرتُكَ، بشعر أخفّ، شابَ الآن معظمه، وقدرة على شراء السجائر، ووضع عُلبها، وإن كانت محليّة الصناعة، على منضدة تتوسط الغرفة، أو على رخام المطبخ، وتَرك أعقابها في مِطفأة على شكل جمجمة، وجمجمة أخرى على ظهر العلبة، وعظمتان، لكن في وجهك، ناتئتان، وأنتَ بعد سكوت المكبرات، والشيب، وانسحاب الموت، حتى حين، إلى مدينة مجاورة، مازلت ترقص، كالغوريلا، كي يعود الهواء شفافاً من جديد.

/3/
خبَّأْتُ جناحَيْنِ وارتديْتُ قُبَّعةً سوداءَ كي أُشبِهَ الباقينَ ثمَّ قلتُ لكلّ شيءٍ: كُنْ... وانتظرْتُ.
ربَّما لا يعرفُ النَّاسُ؛ أنا لا أقطعُ المسافةَ منْ هُنا إلى أيّ مكانٍ -بسرعةٍ أكبر ممَّا ينبغي- تَقْطَعُنِي هيَ. أثقلُ على الوقتِ. لا أرى نفسي غير سمكةٍ مُلوَّنةٍ. سَمَكةٍ مُلوَّنةٍ ربَّما خضراءَ لامعة. جيدٌ أنهُ ليس هناكَ مَنْ يفكرُ في صَيْدِي. لكنْ مِنْ حولي ماءٌ. ومصباحٌ كهربيٌّ كريهٌ لا ينطفئُ، فوقَ رأسي. والحَوْضُ الذي بلا سَقفٍ لا يَسمحُ لي بالهرب. لَمْ أَعرفْ بالصّدْفةِ أَنَّ الموْجَ ينبثقُ مِنْ لا شيءَ. عَرْضِياً وفجأةً تظْهرُ الموجةُ. عَرْضِيَّاً تمشي حتَّى تختفي. يَظنُّ كثيرونَ أَنَّ الموجَ يكونُ قُربَ الشَّاطئِ في اللَّيْلِ. لا يعرفونَ أَنَّهُ يَكُوْنُ قريباً فقطْ في الأيام الهادئةِ. كلَّفتني معرفةُ ذلكَ الكثيرَ؛ جلستُ عندَ الحافَّةِ طويلاً حتَّى عرفتُ. أُسافرُ كثيراً هذه الأيام. لأني لا أريدُ شيئاً. لو تتركني الحياةُ لشؤوني. طَيِّبْ، فَلْتتركْني لما لا شأن لي به. لو تتركُني والسلام!
يمكنُ لأني لمْ أُرسلْ قَطُّ شيئاً إلى السَّماءِ
ولا حتَّى طائرةً ورقيَّة!
كانتِ الطفلةُ النَّائمةُ ما تزالُ خلفَ أُذني تَحْلُمُ باستمرارٍ أن تصير لا مرئيةً، كي تدخلَ كُلَّ المكتبات في المساءاتِ بعد موعد الإغلاقِ، وتقرأ كُلَّ الكُتُبِ، تقرأَ حتَّى يكفَّ بصرُهَا، وقرأَتْ. وكانتِ الصَّبيةُ التي تضعُ نظَّاراتٍ طبيّةً، ربما لمْ تكنْ في حاجةٍ إليها حقاً، لتليقَ برائحةِ الورقِ الأصفرِ تحلمُ أنْ تصيرَ لا مرئيةً كي تخرجَ بعد أن تنام أمها، وتظلَّ قرب النَّهر حتَّى تُشرق الشَّمسُ.
وكنتُ أنا حتَّى الآن أُحبُّ أن تُشْرقَ الشَّمسُ وتختفي بقيَّةُ النّهار، ويَجيءُ اللَّيلُ ويَطولُ اللَّيلُ، وأنْ أصيرَ لا مرئِيّةً فَيُخْطِئَني الأَلمُ.
وكنتُ أنا الوحيدةَ في العالمِ التي تَعْرفُ؛ ماء البحر يَرْوي ماء البحر عَذبٌ...

/4/
وأنا سكبت كوباً من الماء في قلبي كي لا يجف، أغرتني انسيابية الزجاجة وخفتها، فسكبت مرة أخرى في الكوب ومن ثم في قلبي، وتحملت، في جَلَدٍ، معاناة شديدة من الحياة بقلبٍ رطب ليومين كاملين.
وقلت: لا فارق بين ألم التمني واليأس. ثم صمت برهة، وحرتُ في تعريف البرهة تحديداً. تجاهلت الموضوع، وأنا أتخيل بتركيز شديد أنني لو استطعت هذه المرة أن آكل هذه البرتقالة الكبيرة دون أن أغصّ فسأكون من المحظوظين، مثل ابن طبقةٍ ناجية لا شيء يمكن أن يزعجه أكثر من حبر الجرائد الذي يترك سواداً على أصابعه.

* شاعرة مصرية