دمشق | تجمع المغنية السورية لين أديب بين ثلاث ضفاف موسيقية مختلفة: الترتيل البيزنطي، والقوالب الطربية الأصيلة كالموشحات والأدوار وغيرها، مع موسيقى الجاز وآفاق ارتجالاته الواسعة، ساعيةً للتأكيد على أنّه لا جغرافيا للألحان، بل ثمة موسيقى لكل الأوطان، لا سيما أن تعاطيها الواثق مع الأنماط الموسيقية الثلاثة يندرج تحت قناعتها بأن الغناء صلاة ورياضة روحية مهما اختلفت نشأته وصِلاته المكانية والزمانية.
من هنا صاغت أديب جَديلَتَها الموسيقية ببراعةِ صوتِها بما يُشبه «الكالوفونيك» ذاك النمط من الترتيل الذي يُعنى بعذوبة الصوت وحُسن تطويعه، من دون كبير تركيز على الكلام والأشعار إلا بوصفها رموزاً صوتية وذريعة لإبراز الحنجرة كواحدة من أهم الآلات الموسيقية. في إحدى أغنياتها التي كتبت هي كلماتها تقول لين: «صوتي دوا حالي»، وفق هذا التَّصوُّر الأقرب إلى التطهير الأرسطي في المسرح، استطاعت خريجة كلية الصيدلة في جامعة دمشق أن تُزاوج بين كيميائها الخاصة كإنسانة ملتزمة وفي الوقت ذاته مُتحرِّرة، وبين تركيبة خياراتها الموسيقية التي تقول عنها في تصريح لـ «الأخبار»: «خياراتي فيها دائماً ما أحبه، قد يجدها البعض غريبة وفيها شيء من التعقيد على السمع، لكن هذه هي شخصيتي. ربما ما أُقدِّمه من موسيقى نخبوي قليلاً، لكن من الصعب جداً عليّ البقاء ضمن نمط موسيقي واحد، فأنا أحب الترتيل والغناء الشرقي البحت، إلى جانب أنني أرى الجاز ممتعاً جداً. لذا عند سؤالي عن مشروعي الموسيقي، أجيب بشكل عفوي بأنني أجد نفسي في نطاق الموسيقى الموديرن الشرقية، بمعنى موسيقى فيها ومضات شرقية، لكنها تشبه قليلاً الارتجال الموجود في الجاز. هذا المزيج يثير اهتمامي كثيراً، لا أعرف إن كنت سأحقق شيئاً جديداً فيه، لكن أتوقع أنّ فيه الكثير من المفاجآت».
شغف مؤسسة فرقة «رباعي لين أديب» بالجاز جاء أيضاً بشكل عفوي بعد سنوات طويلة من دراستها للموسيقى، سواءً تلك التي بدأتها في عمر الخمس سنوات كإحدى أعضاء كورال «جوقة الفرح» التابع لـ «كنيسة سيدة دمشق»، الذي ترك أثره الكبير على تكوينها الموسيقي والحياتي، أو كطالبة آلة فلوت لمدة تزيد عن ست سنوات، حيث تعرَّفت في دمشق بالصدفة على موسيقي سويسري وسمعت منه للمرة الأولى أغنية «Misty» لإيلا فيتزجيرالد. حينها، شعرت كما تقول: «كأن أحداً فتح لي الكثير من الأبواب، وقلت في نفسي لماذا لم أعرف الجاز من قبل، وأحسست أنني كسورية تفاعلت مع هذا النمط الموسيقي. وبالتالي لا بد من طريقة لأضع روحي ضمن هذه الموسيقى. ومن هنا بدأ سعيي لأن أخلِق جسراً بين الجاز كحركة موسيقية وإنسانية نشأت نتيجة معاناة «الزنوج»، وبين الجمهور العربي، من خلال وضع كلمات عربية على كلاسيكيات الجاز مثل مؤلفات جون كولترين، وباد باويل ومايلز ديفيس وغيرهم، وذلك إما بترجمة الأغنية الأصل مع بعض التحريف لتناسب القافية أو تأليف كلمات جديدة على موسيقاها».
تؤمن لين أن الجاز مستمر في التطور، فأي موسيقى فيها حرية وابتكارات وارتجالات باتت تُنسب تلقائياً للجاز، وهو ما دفعها بعد سفرها إلى فرنسا عام 2009 لمتابعة دراستها في الصيدلة أن تُعمِّق معرفتها أيضاً في هذا النمط الموسيقي. درست غناء الجاز في «كونسرفتوار باريس» (CRR de Paris) لمدة سنتين من 2014-2016، كما تلقَّت في الفترة ذاتها دروساً في الموسيقى البيزنطية على يد الأب جوزيف فحمة (سوري الأصل من حلب)، المرتل في «كنيسة سان جوليان»، بمعنى أن الشغف بالصيدلة والماجستير الذي حازته في اختصاص المخابر، لم يثنها عن مواصلة عشقِها الموسيقي.

مجموعة تراتيل، وموشّح «لاهٍ تياه»، وقطعة «مندرة حجاز» إضافة إلى الجاز
وكما أن دراستها للصيدلة في فرنسا عرَّفتها على رفيق دربها نيكولاس، فإن زيادة مخزونها في أساليب الغناء المختلفة جعل كثيرين يُفتنون بصوتها ومقدرتها على تلوينه، ومنهم الموسيقي السوري جمال سامي عواد الذي قال في تصريح لـ «الأخبار»: «صوت لين مطواع وعذب ومُدَرَّب ومثقف، وطموح في القبض على موسيقى العالم كله، سواء الكلاسيكية منها أم المعاصرة، ولا يمكن تجاهل الشبه بين صوتها وأصوات فنانات جديدات على الساحة الغنائية انتهجن طرقاً قريبة بكثير أو قليل من طريقتها، مثل المطربة سناء موسى. ولم يقتصر الشبه على طبيعة الصوت، بل على أسلوب أداء العُرَبْ الدقيقة والسريعة المعبرة عن قدرة صوتية فائقة. ولعل الاستماع المكثف للفنانة لين اديب يأخذنا إلى حالة التقاء كبير آخر مع الفنانة الهندية كوشيكي شاكرابورتي في مجال الغناء المعتمد على مهارات أدائية صوتية وإيقاعية ولفظية معقدة جداً. لكن الاختلاف عنها كان في أن شاكرابورتي اتسمت بوضوح كبير في الهوية الهندية الأصيلة التي خرج هذا اللون من أعماقها، بينما لم تستطع الفنانة أديب أن تحدد لوناً أو هوية واضحة ومحلية في كل أعمالها، حتى تلك التي حاولت فيها غناء موشحات عربية قديمة أو أغانٍ تراثية معروفة».
ربما هذه المواصفات وخصوصية المشروع الموسيقي هي من ساعد لين على المشاركة في مهرجان «بيروت آند بيوند» الذي يُروِّج لفرق موسيقية غير معروفة عربياً وغربياً، إذ ستقدِّم حفلتها يوم الجمعة القادم في مقهى «كاد» في منطقة الكرنتينا بمشاركة الرباعي المكوَّن هذه المرة منها إلى جانب عازف البيانو طارق سكيكر، وعمر حرب على الغيتار بيس، وعازف الدرامز آغنو أوغيرلي. وسيتضمن برنامج الحفلة كما علمت «الأخبار» مجموعة تراتيل، وموشّح «لاهٍ تياه»، وقطعة «مندرة حجاز» (تأليف أحد شيوخ الطرب في حلب)، إضافة إلى أغنيات جاز وضعت لين كلماتها لكل من عمالقة الجاز: تشارلي باركر، وتشارلز مينغس وباد باول. عن هذه المشاركة، تقول: «في معظم الحفلات التي أقمتها في سوريا وبقية البلدان العربية، كنت دائماً عضواً في فرقة سواء مع «فتت لعبت» أم «أنس أند فريندز» أم «سوريانا». أما الآن فإنها المرة الأولى التي سأقدِّم حفلة باسمي الخاص، وتحمل بصمة مشروعي الموسيقي دون سواها».

* رباعي لين أديب: الجمعة 8 كانون الأول ـــ س:21:00 ـــــ KED (الكرنتينا)