باريس | بدأت القصة عام 2001 عندما دخلت الفنانة والكاتبة السورية دارينا الجندي (1968) مستشفى الأمراض العقلية؛ لتعثر هناك على الشاعرة مي زيادة (1886 ــ 1941) التي شاركتها الآلام والجروح نفسها. بعدها، خرجت لتبحث عن الشاعرة والأديبة، محاولةً تتبع خطاها المليئة بالأشواك. النتيجة كتاب «سجينة الشرق» (Prisonnière du Levant) عن «دار غراسيه» في باريس، الذي يحكي قصة تشتبك فيها الخيانة مع النفاق والجنون. هي قصة زيادة؛ بتوقيع من عاشت معها التجربة نفسها. قبل سفرها للمشاركة في «معرض الكتاب الفرنكوفوني» في بيروت، التقينا الجندي في حوار عن الكتاب والزيارة التي تقول عنها بأنها «محاولة للرد على المدينة التي أوجعت مي زيادة»
■ كيف جاءتك فكرة وضع كتاب عن سيرة مي زيادة؟
بدأت الفكرة من تجربتي في مستشفى الأمراض العقلية عام 2001. هناك عثرت على مي زيادة. عندما خرجت، بدأت بالبحث عن كل ما هو مكتوب عنها. التقيت وقتها بالكاتبة سلمى الحفار الكزبري التي عرفت زيادة عن قرب، وسلمتني وثائق ومواد كثيرة متعلقة بالشاعرة، منها ما لم ينشر، وأعطتني قصصاً كثيرة ما كنت لأحصل عليها بدون سلمى.
في البداية، كنت أعتقد بأنني أعمل على سيناريو. تركت بيروت وانتقلت إلى أوروبا حيث اشتغلت وانشغلت بالحياة الجديدة والمسرح... إلى أن أتت الفكرة من «دار غراسيه» عام 2012. يومها، طلبوا مني المشاركة في سلسلة «بطلاتنا» الموجهة للجمهور الشاب وتتناول شخصيات نساء أثرن في مجتمعاتهن. أجبتهم فوراً بفكرة الكتابة عن مي زيادة، وأرسلت لهم ملخصاً عن الكتاب، فتحمّسوا له. مضيت في رحلة الكتابة والبحث، مر مشروع الكتاب في مراحل عديدة، لينتهي بمجلد من 600 صفحة، بينما كتب سلسلة «بطلاتنا» تصل تقريباً إلى 150 صفحة. أجرينا العديد من اللقاءات، التي أفضت إلى خيارين: الأول نشره خارج السلسلة، والثاني اختصاره ليبقى في السلسلة. رحت إلى الخيار الثاني لأنني أريد أن أوصل الكتاب إلى أكبر قدر من الجمهور والشباب في المقام الأول.
منذ البداية، كنت أريد التركيز على مرحلة الاضطرابات العقلية التي خاضتها زيادة. تجربة عشتها أنا شخصياً، هذه التجربة كانت أساس رغبتي بالكتابة في هذا المشروع. أن أخبر ماذا حصل لمي زيادة وكيف كانت تعيش. أكثر كنت أريد أن أحس بامرأة عاشت ما عشته، وأفهم ماذا حصل معها. ربما هذا سيقودني إلى فهم ما حصل معي. ركّزت في الكتاب على مرحلة الخيانة، ودخولها مستشفى الأمراض العقلية، والمعارك التي خاضتها لاسترجاع حقوقها.

■ لماذا عنوان «سجينة المشرق» للدلالة على مي زيادة؟
ليس فقط مي، بل كل نسائنا أسيرات مصحات عقلية وسجون وبيوت ومجتمعات وقوانين. هن سجينات كل ما هو حولنا. ليس فقط العالم العربي، بل العالم أجمع. لا يمر يوم إلا ونسمع عن الانتهاكات بحق المرأة. نظرة الرجل ما زالت على حالها وما زال هو المسيطر بغض النظر عن الجغرافيا والمجتمعات والأديان والتاريخ.


■ تجربتك في مستشفى الأمراض العقلية، إلى أي مدى أسهمت في وضع هذا العمل، وسمحت لك بالانزلاق تحت جلد مي زيادة؟
هي حجر الأساس. أحياناً، لا نتمكن من قول وجعنا بكلماتنا، فنستعين بالآخرين. أنا وزيادة قلنا الكلمات نفسها في اللحظات ذاتها، ونحن لا نعرف بعضنا ونعيش في أزمنة مختلفة. وأنا لا أبالغ هنا. عندما بدأت في البحث، اكتشفت أن الكلمات التي كنت أقولها في المستشفى هي الكلمات نفسها التي قالتها زيادة. اشتركنا في الظروف نفسها، والتقينا بالوجع. في خضم الكتابة، كثيراً ما كنت أعجز عن مواصلة مقطع ما لأنني كنت أختلط بها ولا أعود أعرف إن كانت هي أنا، أم أنا هي.

■ هناك العديد من الأعمال التي تناولت أعمال وسيرة الشاعرة، ما المختلف في كتابك؟
المختلف أنا، والاشتراك في التجربة، وهذا الخليط بيني وبينها. غرفت من التجربة والظروف والوجع ذاتها. العمل ليس مجرد كتاب قامت به كاتبة اختارت شخصية زيادة، بل عمل من كاتبة ذاقت الكأس ذاته، وربما تجرعت السم نفسه.

■ كأنك بعملك على الكتاب كنت تتعافين من ندوب الماضي؟
بالعكس تماماً، كانت الكتابة موجعة، استحضار الآلام ليس سهلاً أبداً، ولكنه بمثابة محرر ومواجهة. مي زيادة أصبحت صديقتي ورفيقة دربي.

■ لطالما كان لديك غضب تجاه المجتمعات العربية، وخصوصاً النخب الثقافية، ما هي منابع هذا الشعور؟
الكذب والنفاق، ولا أتكلم فقط عن النخبة الثقافية. نتأمل هذه الثلاثية: التفكير، القول، الفعل ونرى بوضوح الفروق الهائلة ما بينها، وهذا في كل العالم، والموضوع نسبي مرة أخرى.

كل نسائنا أسيرات مصحّات
عقلية وسجون وبيوت ومجتمعات وقوانين

■ كأنك تقولين إنّ البشر مجبولون بالكذب؟ وكأن الكذب طبيعة بشرية؟
ربما. ربما هي فعلاً طبيعة البشر منذ نشأة التاريخ. البشر لم يتعلموا من أخطائهم، ولا أعلم إن كانوا سيتعلمون. لا أدعي الفضيلة، ولكن كثيراً ما أتساءل لماذا. فلنأخذ قصة زيادة نموذجاً. طه حسين كان وزيراً عندما حبست، وكذلك لطفي السيد، وغيرهم من الأصدقاء... كلهم تنكّروا لها. كان لديهم السلطة للدفاع عنها وتغيير ظروفها ولكنهم لم يفعلوا. ظلّت حبيسة ما يقارب السنة. لم تجد أحداً للدفاع عنها. هذا لا يعقل. لا يعقل بأنها حين عادت إلى الإسكندرية، لم تجد أحداً لاستقبالها. وبعدما توفيت، تذكروها ومشوا في جنازتها! كان لديهم فرص كثيرة ليعتذروا ويقولوا سامحينا، أخطأنا وأن يكونوا أصدقاء حقيقيين لها. لكنهم ضيعوا تلك الفرص.

■ تكتبين بالفرنسية الآن، لماذا؟
أكتب بالفرنسية منذ عام 2005، أكتب بلغة البلد الذي أختاره. لو كنت في الصين، سأحاول الكتابة بالصينية، مع أن العربية أسهل لي طبعاً، فالعربية هي اللغة التي أعشقها وأعرف التعامل معها جيداً. أنا ابنة عاصم الجندي. في منزل طفولتي كانت اللغة بمثابة تسلية وألعاب للعائلة. اللغة كانت حرفة العائلة. كنا نتحلق حول عمي أحمد الجندي ونلعب باللغة والكلمات. العربية هي المفضلة لي، وهي اللغة التي أحب واستمتع في الكتابة بها، ولكنني الآن أعيش في فرنسا. أعمل مع مؤسسات ودور فرنسية لجمهور فرنسي. أكتب بلغة البلد الذي اخترت العيش فيه، وللجمهور الذي أتوجه له.

■ هل سيظهر الكتاب في العربية، وهل من دور عربية أبدت اهتمامها؟
لا أبداً، لم أسمع عن أي اهتمام وصلني بشكل مباشر، أو وصل الناشر.

■ أشرت بأن الفكرة ظهرت كسيناريو لفيلم، تحول إلى كتاب، هل هناك نية بنقله إلى السينما أو ربما المسرح؟
صحيح، هذا كان هدفي من الأساس. هناك خطوات جادة وحقيقية بتحويل العمل إلى السينما. كان حلمي منذ البداية أن أشتغل مي زيادة على الشاشة. الكتاب هو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، قريباً يتحقق هذا الحلم.

■ ستتواجدين في بيروت ضمن معرض الكتاب، ماذا يعني لك هذا الحضور؟
أنا ولدت في بيروت. أول الكلام والحركات والبسمات كانت في لبنان. والدي ترك سوريا عام 1985. لم نكن نحمل أي أوراق سورية، ولا حتى جنسيات. ولدت في لبنان، وترعرعت هناك. عشت أيامه الحلوة والقاسية في آن. عشت الحرب اللبنانية بكافة تفاصيلها البشعة. زيارتي هذه تتخذ خصوصية كبيرة. أن أذهب وأتكلم عن مي زيادة هناك، هذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة إليّ، لأن بيروت هي المدينة التي أوجعتها، ستمنحني هذه الزيارة شعوراً بأنني أرد قليلاً من حق مي زيادة.

طاولة مستديرة مع دارينا الجندي في مناسبة صدور «سجينة الشرق» (غراسيه):4/11 ــ س: 18:00(صالة المؤتمرات 2) ـــ وأمسية قراءات ممسرحة موسيقية مع دارينا الجندي (5/11 ــ س: 19:30 ــ أغورا) وإعادة عرض فيلم وسام شرف القصير «هز يا وزّ» (2004) الذي أدت بطولته دارينا الجندي في اليوم نفسه (س:20:00) في صالة عرض الأفلام.