في روايتهِ «ريح الشركي» (دار الساقي)، يسرد الكاتب المغربي محسن الوكيلي حياة الناس أواخر حكم السعديين للمغرب، مكتفياً بتحديده للزمن، من دون بناء عالمه الروائي على وقائع تاريخية حقيقية. إنّما نزع إلى تخيّل الأحداث، لتعبر الحكاية زمانها إلى أزمنة لا تتوقف عن تكرار ذاتها! تتنوع المحن التي تواجهها الشخصيات، لتشكل بمجموعها العقدة التي لا يسعى الكاتب إلى حلها وإنّما إلى بلورتها فقط. وفي ذلك تكمن مقولة الرواية الفنيّة. إذ إنّ الطاعون والمخزن هما الأمر ذاته، ويرمزهما الكاتب في عنوان روايتهِ «ريح الشّركي»، وهي إحدى تسميات الرياح المحلية الجافة. بالتالي، يأخذ العنوان الشكل الرمزي للمعاناة التي تجسدها الرواية.
تبدأ الرواية من مشهد استعراضي لشاب يتبول على الناس المجتمعين في إحدى ساحات مدينة فاس، رافضاً الارتهان العام لإرادة البلاط، لا سيما أنّ أخاه يُخصى في ذلك الوقت كي يصير من غلمان الخليفة. يلاحق الجمهور الشاب بغضب عارم، كما لو أنّه سبب المآسي التي تحل بالبلاد. وتنتحي عجوز تتقاسم طعام الكلاب والقطط جانباً، مبررة ذلك، بأنّ مصاحبة الكلاب الشاردة خير من مصاحبة كلاب المخزن، في حين يعبر أحمد بلانكو شوارع فاس ويسأل نفسهُ: «هل يوجد في هذا الزمن الأغبر سلعة أرخص من البشر؟».

إنّ تحليل الصفحات الأولى يقود إلى فهم السرد المنضبط الذي اعتمدهُ الكاتب. إذ تتابع الأحداث في باقي الصفحات وفق المعالجة السردية ذاتها للمشاهد التي يأخذها الكاتب من حياة شخوصه لتصوير طبيعتهم. ويستخدم الراوي مفردات توحي بطبيعة زمن الحدث مثل: البغايا والغلمان والبلاط والطاعون، في جو من التآمر والفتن والمكائد، إضافة إلى المخزن وهو التسمية التي كانت تطلق على النظام السياسي آنذاك. نظام يفتك بالرعيّة التي ما لبثت تفتك ببعضها البعض. يصير، المخزن أهم من الأخ بالنسبة لرجالهِ. ويصير الولاء للخليفة مقترناً بالولاء لله، إلى درجة أنّ الحجر الصحي يُفرض على مرضى الطاعون وعلى العصاة كذلك!
يبني الكاتب حبكته وفق منطق الزمن الرديء. يكون هروب حسن المقري من فاس الحدث الأبرز الذي تبدأ منه الرواية بالتصاعد الدرامي. ينذر الصراف المقري بضرورة الهروب. ثمّ يقع بعد هروب المقري في شرك الخليفة. يتعرض المقري للسلب في طريقه إلى مراكش، في مسعى لإيصال معاناة أهل فاس إلى السلطان، والد الخليفة، لكي يجيء ويرفع الظلم عنهم. ينقذ المقري أحد الذين كان قد أعتقهم في السابق. يصير حسن الناجي بعدما كان حسن الثائر. يصل نبأ هروبه إلى مراكش قبل وصوله. يُقتل الصراف منذراً الخليفة بموتٍ يشبه ما حكم عليهِ به. يتوه حسن عن غايته في مراكش، مثلما تاه من بقي من أهله في فاس. يهرب حامد وتقاد زهرة إلى الخليفة. تضيع أمواله في مراكش.

لغة شاعرية عند حديثه عن المدن، لا سيما فاس ومراكش
يتعلق بعاهرة. تضع نفسها في مقابل بلادهِ. يختارها وينطلق معها إلى إسبانيا. وهناك تتكشف الصفقة التي عقدها مع شهد على قدر كبير من الخيبة. يحاصر جيش السلطان القادم من مراكش مدينة فاس. يتخلى قائد جيش الخليفة عن سيدهِ، ليترصد من موقعه معركة الأب والابن طمعاً بالنيل منهما. تبرز بين الابن وأبيه وقائد الجيش مجموعة من الثوار يعرضون على السلطان فتح أبواب فاس أمامه، على أن يعيد الحقوق لأصحابها. لكن السلطان يعيد لهم رأس رسولهم إليهِ. ويدخل فاس منتصراً. إنّ المصائر في الرواية برمتها قد بنيت وفق قاعدة السبب والنتيجة. حتى بدت مقادة بمعادلة ثابتة وحتمية جعلت الشخصيات تفتقد للتناقض رغم الدراما التي اتسمت بها الرواية. إذ كانت شخصيات تتسم بروح مستقرة. إلى جانب ذلك، تلفت في الرواية اللغة الشاعرية التي ينقلب إليها الراوي عند حديثه عن المدن، لا سيما فاس ومراكش. إذ تصير لغة بين محبين، إلى جانب تلك الرغبة بأنسنة هاتين المدينتين، اللتين لم تتوقفا عن تحويل سكانهما إلى رعايا وأصناف غير متساوية من البشر. إن ذاك التضاد الذي يبرز جلياً في حديثه عن المدن وعن أهلها، يجعل من فاس ما يفوق الجغرافيا. إنّها الشخصية الأبرز التي تتوالد منها حياة ناسها، كما لو أنّهم أولاد عاقّون.
في الربض، وهو مكان الحجر الصحي المفروض على المرضى والمعارضين للحكم، يزف أحمد بلانكو إلى زهرة المقري، ويحمل زفافهما دلالات متعددة. بينما يتقاتل السلاطين والقادة على الحكم، يستمر معارضوهم في ممارسة الحياة. بينما يخصى الغلمان ويستلم المخصيون قيادة الجيش، يكمل الناس العاديون حياتهم أصحاء في مكان آخر. رغم صلابة المنطق الذي قاد المصائر المختلفة، ويودي إلى فكرة تدعو إلى اليأس؛ إذ يموت الشرير ويبقى الشر، يذهب طاغية ليأتي آخر أكثر دهاءً وجبروتاً، لكن، هنالك، في الهوامش ينمو رفض دائم ويولد أحرارٌ أكثر حزماً وأكثر صبراً ودراية على قيادة معارك الخير. لم تخرج الرواية عن هذه الثنائيات البسيطة رغم رغبة كاتبها بجعلها رواية ملحمية. لا تقول الشيء وعكسه، إنّما تتضمنه في الأمر ذاتهِ.