صفحات الإبداع من تنسيق: أحلام الطاهر
جون أشبري
ترجمة أسماء ياسين
في أحد اللقاءات التلفزيونية، تسأل المذيعة جون أشبري: هل أنت بالفعل أهم شاعر أميركي على قيد الحياة؟ فيجيبها: لا أظن. لكن كثيرين يظنون أن جون أشبري الذي ولد في روتشستر في نيويورك عام 1927، وتوفي في 4 أيلول (سبتمبر) 2017 عن تسعين عاماً، هو بالفعل واحد من أهم الشعراء الأميركيين المعاصرين.

كان أشبري أكاديميّاً وناقداً وصحافيّاً ومترجماً (عن الفرنسية)، وشاعراً. هو واحد من شعراء مدرسة نيويورك؛ الجماعة الأدبية التي تكوّنت في الستينيات، وجمعته بفرانك أوهارا وجيمس سكايلر وكينيث كوك وآخرين. ترك أشبري نحو ثلاثين كتاباً شعريّاً؛ نشر أولها عام 1953 «توراندو وقصائد أخرى»، وتلاه «بعض الأشجار» و«أنهار وجبال» و«كما نعلم»، و«كانت النجوم لامعة»، و«اسمك هنا» وغيرها. أما أبرزها فهو ما صدر عام 1975 «بورتريه شخصي في مرآة محدبة» ويحوي قصيدة طويلة تحمل اسم الكتاب، وفاز بثلاث جوائز حال صدوره؛ منها جائزة «بولتزر» و«جائزة الكتاب الوطني». استمر أشبري في الكتابة، وفي 2016 نشر كتابه الشعري الأخير «هياج الطيور»
لا يمكن ببساطة مقارنة أشبري بأي من شعراء مدرسة نيويورك، وأظن أنه ليس في إمكاننا مقارنته بأي شاعر آخر، وليس غريباً أن تصادفنا مقالة نقدية بعنوان «دليل التعليمات لقراءة جون أشبري»، وأن تتساءل ناقدة أخرى: كيف أمكن لهذا الشاعر المعقد الغامض أن يحتل هذه المكانة في المشهد الأدبي الأميركي؟! فما عنده من الشعر يختلف كثيراً عما عند الآخرين، وتصوره لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة أمر يخصه وحده، فلا يبحث أحد عن معنى واضح مباشر، لأنه إن فعلت فلن تجد. يستمر أشبري في تفكيك الحياة في قصائده، وهو شخصيّاً يحب اللعب، ويرى أن ما يفعله ليس غموضاً من أجل التعقيد بحدّ ذاته، بل من أجل السخرية واللعب.


فلسفتي في الحياة (1995)

عندما فكرت أن ليس ثمة حيز في عقلي لفكرة أخرى،
خطر ببالي فكرة عظيمة أسميتها فلسفتي في الحياة،
باختصار، هذا يورطك في العيش مثلما يعيش الفلاسفة،
وفقاً لحزمة من المبادئ،
أوكيه، لكن أيها؟
أعترف أن الجزء الأصعب كان أني كنت أملك نوعاً من المعرفة المسبقة لما سيكون عليه الأمر،
كل شيء، أكل البطيخ، الذهاب إلى الحمّام، أو حتى مجرد الوقوف على رصيف المترو،
غارقاً في التفكير لدقائق، أو قلقاً أن الغابات المطيرة ربما تتأثر،
بتعبير أدق، منحنياً بموقفي الجديد.
لن أتحول واعظاً، وأقلق على الأطفال وكبار السن، اللهم إلا بطريقة عامة حددها كوننا المتناغم،
بدلاً من ذلك، سأترك الأشياء، نوعاً ما، لتكون ما هي عليه،
بينما أحقنها بمصل المناخ الأخلاقي الجديد الذي أظن أنني تعثرت به،
كغريب يضغط خطأً لوحة خلف خزانة للكتب،
ليكتشف سُلّماً مضاء بضوء أخضر في مكان ما بالأسفل،
فيخطو تلقائياً إليه، وتنغلق خزانة الكتب،
وكما هو الحال في مثل هذه المواقف، يجتاحه العطر على الفور،
ليس الزعفران ولا الخزامى، لكنه شيء بينهما،
فكّر في الوسائد التي يتكئ عليها كلب عمه في بوسطن،
بينما ينظر إليه متسائلاً، وأذناه مطويتان فوق رأسه،
وهنا حدث الانفجار العظيم، الذي لا فكرة واحدة منه تكفي لجعلك تشمئز من التفكير،
ثم تتذكر شيئاً كتبه ويليم جيمس في كتاب لم تقرأه قط،
كان لطيفاً، امتلك اللطف كله، غبّره مسحوق الحياة، مصادفة بالطبع،
وعلى رغم ذلك، لا زال يبحث عن دلائل بصمات الأصابع،
أحدهم استطاع التعامل مع الأمر،
حتى قبل أن يصوغه، رغم أن التفكير كان تفكيره هو فقط،
لا بأس، في الصيف، إن أردت أن تزور الشاطئ،
هناك رحلات كثيرة يمكن القيام بها،
بستان من الحور اليافعات يرحب بالمسافر،
وبالقرب منه المراحيض العامة، حيث نحت الحجَّاج الضجرون أسماءهم وعناوينهم،
وربما كتبوا رسائل أيضاً،
رسائل إلى العالم، بينما هم جالسون يفكرون فيما سيفعلونه بعد استخدام الحمّام،
ويغسلون أياديهم في الحوض، قبل أن يخرجوا إلى العراء ثانيةً،
هل كانوا مقتنعين بالمبادئ؟
هل كانت كلماتهم فلسفة، أو نوعاً ما مادة خام لها؟
أعترف أني لا أستطيع الحركة أبعد من قطار التفكير هذا،
شيء ما يعوق حركتي،
شيء لست ناضجاً بما يكفي لاكتشافه،
بصراحة، ربما أكون خائفاً،
ماذا كانت مشكلة الطريقة التي كنت أتصرف بها قبلاً؟
ربما أستطيع الوصول إلى حل وسط،
نوعاً ما، سأترك الأشياء لتكون ما هي عليه،
في الخريف سأصنع الجيلي، ضد برودة الشتاء وعبثه،
وهو ما سيكون أمراً إنسانياً، وذكياً كذلك،
لن تحرجني تصريحات أصدقائي الغبية، ولا حتى تصريحاتي الشخصية،
رغم التسليم بأن هذا هو الجزء الأصعب،
مثلما تكون في مسرح مزدحم، وتقول شيئاً يزعج المشاهد الذي أمامك، الذي لا يحب أصلاً فكرة أن يتحادث شخصان بالقرب منه،
حسناً، عليه أن يتدفق حتى يجد الصيادون فجوة للوصول إليه،
كما تعلم، هذا الأمر يعمل في كلا الاتجاهين،
لا يمكنك دائماً أن تقلق على الآخرين، وتحافظ على مسارك في الوقت نفسه،
سيكون هذا مسيئاً،
لكنه يشبه نوعاً من المرح، في أن تحضر مثلاً زفاف شخصين لا تعرفهما،
مع ذلك فإن هناك الكثير من المرح في أن تظل في الفجوة بين الأفكار،
هذا ما خلقوا لأجله،
الآن، أريدك أن تخرج، وترفه عن نفسك،
نعم، استمتع بفلسفتك في الحياة أيضاً،
إنها لا تأتي كل يوم..
انتبه.. هناك واحدة كبيرة!

مفارقات ومتناقضات (1981)

هذه القصيدة تهتم باللغة في مستواها العادي جداً،
انظر إليها وهي تكلمك،
وأنت تنظر خارج النافذة،
أو تتظاهر بالتململ،
أنت تملكها لكن لا تملكها،
أنت تفتقدها وهي تفتقدك،
كلاكما يفتقد الآخر،
القصيدة حزينة لأنها تريد أن تكون قصيدتك،
وهو ما لا يمكن أن يحدث،
ما المستوى العادي؟
إنه هذا وأشياء أخرى،
تشرك نظامهم في اللعب، اللعب؟
حسناً، في الواقع أنا أعتبر اللعب شيئاً خارجياً أعمق،
نمط حالم،
كما هو الحال في تقسيم عطايا أيام أغسطس الطويلة دون برهان مطلق،
وقبل أن تعرفه يضيع في البخار وثرثرة الآلات الكاتبة،
ها هو قد لُعب مرة أخرى،
أظن أنك موجود فقط لتغيظني بفعلك ذلك،
على مستواك،
وبعدها تختفي،
أو تتبنى موقفاً مختلفاً،
والقصيدة أجلستني على الأرض بجوارك،
القصيدة هي أنت.

نوافذ رطبة (1977)

عندما أتى إدوارد رابان ماشياً بطول الممر إلى المدخل المفتوح، رأى أنها كانت تمطر، لم تكن تمطر كثيراً..
كافكا.. الإعداد لزفاف في الريف
المفهوم مثير للاهتمام؛
أن ترى الأشياء كما لو كانت منعكسة على زجاج نوافذ مشرعة،
نظرة الآخرين عبر عيونهم هم،
خلاصة انطباعاتهم الحقيقية عن اتجاهات تحليلاتهم الذاتية، المموهة بوجهك الشبحي الشفاف،
أنت في فيلم فالبالاس،
في حقبة قديمة، لكن ليست بالغة القِدم،
مستحضرات تجميل
وأحذية مدببة تماماً،
تنجرف (إلى أي مدى يمكنك الانجراف، إلى متى أستطيع أن أنجرف بعيداً في هذه المسألة)
مثل عفريت العلبة الذي يتجه نحو سطح الذي لا يمكنه الاقتراب منه أبداً،
لا تخترق الطاقة الأزلية للحاضر،
الذي سيكون له وجهة نظره الخاصة في هذه الأمور،
وهي أن اللقطة المعرفية لتلك العملية المركبة، كانت حين ذكر اسمك للمرة الأولى في حشد أثناء حفل كوكتيل منذ وقت طويل،
وأن شخصاً ما (ليس الشخص المخاطب) سمع ذلك وأخذ الاسم فوضعه في محفظته لسنوات حتى بليت المحفظة وانزلقت الفواتير منها،
اليوم، أريد هذه المعلومات بشدة،
لا أستطيع الحصول عليها،
وهذا يغضبني جداً،
يجب أن أستغل غضبي في صنع جسر، مثل جسر أفنيون،
الذي يرقص الناس فوقه فقط ليشعروا بالرقص فوق جسر،
يجب في النهاية أن أرى انعكاس وجهي كاملاً،
ليس على الماء، لكن على حجر أرضي رث من جسري،
سأحترم نفسي،
ولن أكرر تعليقات الآخرين عني.

الرسام (1956)


يجلس بين البحر والمباني،
يستمتع برسم بورتريه للبحر،
وكما يتخيل الأطفال أن الصلاة هي مجرد صمت،
يتوقع هو أن موضوعه يتحقق بالمشي على الرمال، والعثور على فرشاة، ولصق البورتريه على القماش.
لذلك لم يكن هناك أي رسم على قماشه،
حتى قاطعه الناس الذين يسكنون المباني قائلين: «جرّب أن تستخدم الفرشاة وسيلة لتحقيق هدفك، اختر للبورتريه شيئاً أقل غضباً واتساعاً، أكثر ملاءمة لمزاج الرسام، وربما أكثر ملاءمة للصلاة،
لكن كيف يشرح لهم أن صلاته، للطبيعة، لا للفن، قد تسطو على القماش؟
اختار زوجته موضوعاً جديداً للرسم،
جعلها هائلة، كمبان مدمرة،
كما لو أنه ينسى نفسه، البورتريه عبر عن نفسه بلا فرشاة،
تشجع قليلاً، وغمس فرشاته في البحر،
وتمتم بصلاة قلبية: «يا روحي، عندما أرسم البورتريه التالي، كوني أنتِ من يدمر القماش»
انتشرت الأخبار عبر المباني كالنار في الهشيم؛ لقد ذهب إلى البحر من أجل موضوعه.
تخيَّل الرسام مصلوباً على عمله
غير قادر حتى على رفع فرشاته،
استفز بعض الفنانين، فمالوا من المباني في مرح خبيث: «ليس عندنا صلاة الآن، لوضع أنفسنا على القماش، أو لجعل البحر يجلس أمامنا من أجل بورتريه»
آخرون أعلنوا أنه بورتريه شخصي،
في النهاية، كل الدلائل على الموضوع بدأت تتلاشى،
تركوا القماش أبيض تماماً،
فوضع فرشاته،
فوراً انتشر عواء،
كانت هذه أيضاً صلوات انهالت من المباني المكتظة،
ومن فوق أعلى مبنى ألقوا عليه البورتريه،
التهم البحر القماش والفرشاة،
كأن موضوعه قد قرر أن يظل صلاة!

ما الشعر؟ (2007)

مدينة من القرون الوسطى برسوم جدارية لفتيان كشافة من ناجويا؟
ثلج يتساقط حين نريد له يتساقط؟
صور جميلة؟
محاولة لتلافي الأفكار، كما في هذه القصيدة؟
لكن أنعود إليها، مثلما نعود إلى الزوجة، تاركين العشيقة المشتهاة؟
الآن عليهم أن يصدقوه، كما صدقناه،
في المدرسة مشطنا كل الأفكار،
وما تبقى منها كان حقلاً،
اغمض عينيك، وستشعر به ممتداً حولك لأميال،
والآن افتحهما، على طريق عمودية رقيقة،
ربما يمنحنا... ماذا؟
بعض الزهور قريباً.