(1)

عزيزي صنع الله:
الآن أتذكر أن سيرتك لم تتردد أبداً مع أبي. فعلى عكس يحيى الطاهر، كنتَ خارج دوائر معارفه. أو لعل اسمك اقترن عنده بجماعة «حدتو» التي يبدو أنه «كَرَفْها» مبكراً.
وحدها أمي حكت لي عن شاب هزيل وخجول كان ضمن جماعة أصدقائها قبل أن تتزوج. وبذلك المزيج من الفخر والحسرة الذي يبديه مَن عرف شخصاً مشهوراً أو غنياً قبل أن يشتهر أو يغتني، كان رد فعلها على انبهاري بـ «تلك الرائحة» أنها حكت لي كيف طلبتَ رأيها في روايتك الأولى سنة ١٩٦٦ وكيف - كأي فتاة محترمة - قالت لك إنها مقززة.

كان ذلك سنة ١٩٩٧، ربما. أمي تأثرت حتى البكاء وهي تقرأ الخطبة التي ألقيتَها في شباط (فبراير) ٢٠٠٣ في المجلس الأعلى للثقافة ترفض جائزة الدولة على الملأ، يوم «علّمْتَ» على جابر عصفور في مشهد وإن كان حنجورياً أو قومجياً فهو فعلاً غير مسبوق.
في لقائنا الأول سألتَني عنها باسمها.

(2)


حتى في غربتي عن نصوصك
أو رفضي لتوجهاتك السياسية،
كنتَ حاضراً


عزيزي صنع الله:
لا أعرف إن كانت تلك النسخة القديمة منزوعة الغلاف هي نفسها التي قززت قارئة إحسان عبد القدوس الشغوفة المستسلمة مثل «ذات» للبيروقراطية والتدين. لست متأكداً من تاريخ نشرها ولا من أين جاءت. ولست مقتنعاً في الحقيقة بأن أمي تقززت من مشهد الاستمناء الشهير، وإن كنت لا أراها تستمتع بهذا النوع من الكتابة.
الأكيد أني وجدتك في بيتنا. كان الورق بنياً ناعماً والهوامش واسعة والخط رائقاً وخفيفاً مثل شاب مهندم. كان للورق رائحة مبهجة وكنت خائفاً على أطرافه من تشنج أصابعي.
فالنصوص التي «تثبّتني» بلا سابق معرفة أو ترتيب قليلة جداً. وهي قادرة على تثبيتي بالفعل، كأنها كهرباء أو شخص يدفس مسدساً في عنقي. أستطيع أن أعود إليها دورياً دون أن يخف تأثيرها أو يخبو حماسي. وهي تحتفظ بقدرتها على رفعي بضعة أشبار عن الأرض.
«تلك الرائحة» كان أول هذه النصوص.
الآن أتذكر أن النسخة المعنية كانت تبدأ بمقدمة ليوسف إدريس بوصفه معلماً يدشن تلميذه على بداية الطريق. لم أر أي مبرر لوجود هذه المقدمة.

(3)


عزيزي صنع الله:
الآن أعترف لك بأن رواياتك الكبيرة التي صدرت بين «تلك الرائحة» و«التلصص» لم تعن لي الكثير، وإن كنت أدرك ضرورتها كمداخلات وجسور بين الواقع والأدب وبين التجربة العربية والعقود الحالية في العالم. وحتى عثرت في «العمامة والقبعة» على رف «المجرودي» في أبو ظبي - هناك كنت أقيم سنة ٢٠٠٧ أو ٢٠٠٨ - لم يصبني منك أي تثبيت أو كهرباء…
حتى في غربتي عن نصوصك أو رفضي لتوجهاتك السياسية، كنتَ حاضراً. وأنت ترفع السماعة وسط الرسالة التي أتركها لك على «الآنسر ماشين»، وأنت تشاركني رأيك فيما أكتب بأمانة، وأنا أتكلم عنك مع أعزاء على كورنيش الإسكندرية، داخل شباك «تشات» متصل مباشرة برام الله أو وسط حدائق مونبلييه… لكنك كنت حاضراً بالأكثر كنموذج مقنع وحي للأديب المعاصر.
أي سحر مع الجبرتي بأسلوب «الخبز الحافي»؟ ووسط الصحراء في المدينة نفسها حيث قدّر لي أن ألقاك أيضاً وكلانا مقيم في القاهرة بعد سنين، كأن الأدب كله يولد من جديد.
* روائي مصري