■ منذ متى ورشيد المومني يكتب الشعر؟ منذ متى وهو يقرأ الشعر؟من وجهة نظر شخصية، أرى أن ميلاد الشاعر لا يتحدد في تاريخ كتابته لأول نص شعري من نصوصه، كذلك لا يتحدد في قراءته لمدونة شعرية ما. رغم إسهام الكتابة والقراءة في رسم الملامح الأولية لهوية الشاعر، إلا أنهما ليستا بالضرورة مؤشراً فعلياً على ميلاد شاعر، قد يحمل اسم المتنبي، أو بودلير، باعتبار أن الشعرية العميقة تكون حاضرة قبل ذلك بكثير، كبنية وجودية، وكاستعداد باطني، ينتظران معاً لحظة توسيع هذا الحضور. الشاعر كما أتصور، ذاتٌ مجبولة على التأمل في الأشكال المسكوبة على صفحات الكون، بمعنى أن ما يقرأه الشاعر وما يكتبه، لا يتعلق دائماً بالمكتوب، وبالمقروء. كذلك، إنّ الشاعر ليس بالضرورة مَن يكتب الشعر، أو يقرؤه، لأن من يباغت الشعر من باب كتابته، أو قراءته، أملاً في كسب رهان الانتماء إلى شجرة نسبه عبر مداهمة كائناته، بالسعي إلى إعادة تمثيلها، أو تجريب لعبة قراءتها، هو في الواقع، يغامر بتجسيد ذات لا علاقة لها بذات الشاعر، وهي المفارقة المحيلة على ندرة الشعراء، وندرة الكتابة الشعرية التي تستقل بخصوصيتها عن المنظور العام لمفهوم الشعر، حيث يكون من حق الجميع الحنين إلى لحظة صفاء روحي، وبراءة إنسانية مجسدة في فعل الكتابة. من هذا المنطلق، يكون بإمكان كافة الكائنات، ادعاء الانتماء إلى الشعر، من دون أن تكون لها أي معرفة بأبعاد قراءته أو كتابته، التي تكون في هذا السياق منفصلة تماماً عن دلالتها.
الرسم عندي ليس تجربة
قائمة بحد ذاتها، بل امتداد
طبيعي للكتابة الشعرية
فالانتماء هنا مجردٌ تماماً عن أي مرجعية فعلية لها علاقة محتملة بشيء يمكن أن يحمل اسم الشعر، لأن أغلب ما هو متداول من شعر يشتغل في هذا الإطار، أي بصفته إسقاطاً مختلقاً يدور حول ظله، خارج مدارات الشعر. إنّ الأمر يتعلق بحالة مزاجية عابرة، تتحول صدفة إلى مكتسب رمزي، أو بالأحرى إلى انتماء غير مشروع، وحالة مزمنة من الادعاء. في موازاة ذلك، يحضرني زمن التكوين الذاتي، الموغل في طفولته، الذي لا يقترن بتاريخ محدد وثابت، حيث تنمحي الحدود الفاصلة بين لحظة تكوينية وأخرى. إن صيرورة هذا التكوين تظل حاضرة قبل أن يكتشف الشاعر إمكانية انتمائه رسمياً إلى النسب الشعري، كي يستمر إلى آخر يوم في حياته. إن شعرية الشاعر لا تتشكل بقرار ما. كذلك فإنها لا تكتمل عبر منجز شعري أو ثقافي له علاقة بمقروئية ما، لكونها دائمة التشكل ودائمة التكون. إن كتابة الشعر، بما يوازيها من أزمنة القراءة، ليست إلا غيضاً من فيض حياة تكون موجهة بالرؤية الشعرية، وبما يتفاعل فيه من حدوس. إن الأمر يتعلق ببنية متكاملة ومتجذرة في تربة خصوصيتها، لا باختيار مسبق، بل باختيار يأتي كاستجابة تلقائية وحتمية، لنداء تلك البنية. هو إخلاص لها، احتفاء بها، وتكريم لطبيعتها. هكذا أفهم علاقة الشاعر بالشعر، وفي هذا السياق تحديداً، يطيب للذات أن تزوج العقل بأبعادها الميتافيزيقية والغائمة. هي ملحاحية قول، يتقاطع فيه المكون الإرادي مجسداً في ذهاب الشاعر إلى فضاءات المقروء، وأيضاً في البحث عن المسالك المفضية إلى أسئلة الذات، وأسئلة الآخر، إلى جانب حضور العمق الباطني، الذي يتجاوز حدود الإرادة الموسومة بعقلانيتها، وموضوعيتها. إنّ التاريخ الشخصي للشاعر هو تاريخ يظل دائماً طور التكوين، وطور الإنشاء. كذلك فإن هوية الشاعر تتسم عادة بنقصانها، وبطموحها الدائم إلى كمالها، سواء من حيث كونها ذاتاً قارئة أو كاتبة. إن الشاعر يحرص دائماً على أن يكون الشاعر، وفي الوقت عينه، ذلك القارئ الاستثنائي، الذي لا يكون بالضرورة مصاباً بشره القراءة، بقدر ما يكون مصاباً بلوثة البحث عن النص الجدير بالقراءة. وبالتالي، فأنت تشير إلى مسار موغل في النأي، وموغل في احتجابه داخل سديم الطفولة. إنه الاحتجاب المنطوي على أكثر من انتشاء، وأكثر من برق، وأكثر من نشيد.

■ أكثر من نشيد، أكثر من قصيدة، إنجاز ذلك يتطلب عقوداً من القراءة والكتابة الشعرية، هل غيّرت شيئاً في رشيد، في خياله وفكره، وحتى جسده؟
كل هذه العقود، قابلة لأن تتحول في ضوء إطلالة ما، إلى مجرد لحظات معدودة، حيث يقف الجسد مذهولاً، ومعه الذاكرة من عنف حركية هذا العبور الزمني الخاطف، الذي يمكن أن تندرج فيه قرون طويلة من تاريخ الكائنات، حيث يمكن حصر تاريخ الكون، بين ظهوره واحتجابه في لحظة عابرة وخاطفة. لكن أيضاً، وفي ضوء إطلالة مغايرة، قد يتهيأ لك أنك فعلاً، وبكم من معجزة، قد أطلت المكوث في هذا الكون أكثر مما يمكن أن يتوقعه الزمن. وأنا أشير هنا ضمنياً، إلى تلك المعادلة الملتبسة الحدين، التي تفتك بالكائن، وهي تراوح بين الإحساس بديمومة أبدية، وبين زوال يتصيد فرصة إعلان حضوره. ولعلّها المعادلة الأكثر تفجيراً لشعرية الكتابة، بما هي إطار متحرك لحالات مركبة، يتداخل فيها الوجل بالتشوُّف، والشك باليقين. غير أن مكابرة الشاعر تكمن في وهج الطفولة الكونية المقيمة في دواخله. إنه وهج التماس الفرح مع أشياء العالم، مع أسراره ولغاته. كذلك هو وهج الاندهاش المتسائل عن خيمياء الكون. لذلك ربما، كان الفناء أو الغياب، بمثابة شكل من أشكال الانتقام، الموجه ضدّ ما يمتلكه الشاعر من إمكانيات للتعرف، والفهم، والتأويل على امتداد الصيرورة، التي يمكن أن يسمح بها الزمن، وقد ترتقي به إلى مصاف العارفين، أو تنحدر به إلى سجف الأبالسة. ذلك أن طول الإقامة في الزمن، قد يتيح لك فرص الإحاطة بأسرار الخلق الأولى، وهو ما يتعارض مع القوانين المتعالية، التي لا تلبث أن تطالبك بالاختفاء، وإخلاء المشهد تلافياً لأي منافسة محتملة.

■ ما تستعمله حتى الآن هو معجم فلسفي يعيد التذكير بالحضن العقلي للشاعر. وذلك يتطلب اتجاهاً أو مدرسة. كل شاعر يمرّ في مدارس شعرية معينة، ما هي مدارسك؟ مراحلك؟
من المؤكد أن سؤالك مستوفٍ لكل شروطه الموضوعية، باعتبار أن مسار الشاعر في عرف الخطابات النقدية، لا يمكن أن ينزاح كلية عن مسارات شعراء آخرين ينتمون، هم أيضاً، إلى هذا الزمن أو ذاك. وينتمون إلى هذه القارة الرمزية أو تلك، حيث يتعذر تجاوز هذه العلاقة المؤثرة حتماً في تحديد وجهاته، ومرجعياته الجمالية والفكرية التي تسمح لنا عملياً، بتأطير تجربة الشاعر. بمعنى أن الأمر يتعلق بوضع الشعر تحت ضوء قراءة تنأى بالتجربة عن أي التباس أو غموض. كذلك تخوّلها حق تعطيل ما يحرص الشعر على إدراجه ضمن أسئلة المنسي واللاّمفكر فيه. إن التأطير النظري يسهم عادة في التخفيف من غلواء القصيدة، وانفلاتها، وجموحها. كذلك يضع بين أيدينا تلك المؤشرات الفاعلة في تقنين النص، وإخراج دلالته من سريتها المنغلقة، إلى مستوى تعميمي ومنفتح. إنه صيغة من صيغ البحث عن التقنية الكفيلة بفضح تمويهات وألاعيب الساحر. هي مهمة مشروعة، وخاصة على المستوى الأكاديمي، التي لا تتيح للقارئ فقط فرصة التعرف إلى المنابع الخفية لاندلاق ماء النص، وعلى المصادر التي أسهمت في إنتاج آلياته، وفي تحديد هويته وخصوصيته، ولكنها أيضاً أداة للتعرف إلى الأسس المعتمدة في تقويم تجربة الشاعر، من أجل اختبار عمقها المعرفي، والاهتداء إلى الشروط الثقافية الحاضرة في تضاعيفها. أمر يسهم في تنشيط آليات للقراءة، وتأطير منهجية تصنيف التجربة ضمن مُدوّنة شعرية ما. والملاحظ أنّ هذا الإجراء بكل ما يتضمنه من حيثيات، يضاعف من سلطة القراءة التي تعتدُّ بفاعليتها في تقديم التفاصيل المعرفية المتعلقة بهذه المدارس، حيث تكون فرصتها للكشف عن قدرتها على استجلاء الخيوط الرهيفة، التي تتشكل بها علاقة النص مع مرجعياته، وبالنظر إلى أهمية المدارس، أو المراحل التي يكون الشاعر من خلالها مطالباً بتعقب ضوء القصيدة، في مختلف النقط المركزية من فضاءات الذاكرة العربية أو الكونية. علماً بأنّ الأمر لا يتعلق باقتفاء أثر الكتابة الشعرية في هذه المدارس أو تلك، بقدر ما يتمثل في نوعية تمثل الشاعر لقراءاته، وهنا يطرح فيضٌ من الأسئلة الفكرية والفلسفية والمعرفية. فتلقي الشاعر لشعر الآخر، لا ينفصل بحال عن جمالية ومنهجيته لكتابة نصوصه، والتقنيات التي يشتغل بها، بالنظر إلى تفاعل كل من كتابة الشعر وقراءته. فالشاعر عادة يميل إلى كتابة القصائد التي يحلم بكتابتها، كذلك يتمنى التجربة التي سبقه إليها شعراء آخرون في هذا الزمن أو ذاك، في هذه الخريطة الشعرية أو تلك. لكن قبل ذاك، وفي موازاة ذلك، ثمة الحياة. هذه الكلمة المشحونة بعنفها الاجتماعي، الروحي والثقافي. الحياة بالمفهوم الشعري للكلمة، هي جماع نصوص، جماع تجارب، وجماع انتماءات فكرية معرفية. وثمة العين التي تكون معنية بالتقاط سحر الأشكال اللانهائية والمطلقة، لأن الشاعر ــ قبل أن يشتغل داخل المدارس الفكرية ــ يشتغل داخل محافل الأشكال التي سيكون مطالباً بتعقبها في الواقع والمتخيل، في المكتوب، وفي الشفوي، في المرئي بعين الحلم وبعين المخيلة. هذه العناصر التي يتملّكها الشاعر، هي التي تتدخل مباشرةً في بناء النص، وهي العناصر ذاتها التي تقوم بتفكيك المدارس والمراحل والأنساق. في قلب هذه الأرخبيلات، تتشكل خيمياء النص وخيمياء الجسد، حيث لن يكون أبداً سهلاً الاهتداء إلى النص عبر إرجاعه إلى مصادر معرفية مضبوطة ومحددة. إنّ الرؤية لدى الشاعر، بكافة مستوياتها، تكون مطالبة بالارتقاء إلى مستويات متسامقة من العمق المعرفي والجمالي، حيث ترتقي الذات الشعرية بموجبها إلى مقامات الكتابة الحقيقية.
■ أنت شاعر معروف بممارسة الكتابة التأملية في الشعر، وما يتصل بها من فنون وعلوم وأفكار. ما أهمية ذلك في تكوينك وإبداعك؟
تسمح الكتابة الفكرية بإضاءة التجربة الشعرية. إنها مسار محتمل للاقتراب من أسرارها. الغموض الكبير الذي يكتنف الوجود، واللغة والكائن، يقتضي البحث عن أكثر من مسار من أجل مقاربته ولو في حدوده الدنيا. وأنا هنا غير معني بالدلالة الجوهرية والمحورية للغموض، بقدر ما أنا معني بإشكالية الجهل الذي يحدث أن يصيب العقل والحواس بالعمى، فلا ترى من الوجود إلا دُكنته.
إن تعدد النظريات بمختلف تخصصاتها، وتعدد الكتابات حول مختلف الظواهر الكونية والإنسانية، لا يؤدي بالضرورة إلى استنفاد القول، واستنفاد منهجيات المقاربات. إن كل قول، ومهما تشعّبت دلالاته حول الشيء ذاته والذي يمكن أن يكون متمحوراً حول الشعر، لا يعدو أن يكون مقدمة مؤقتة وتمهيدية لبسط الخطاب المتعلق بالشيء. بمعنى أن الشيء يظل مفتوناً بالمقدمات التي يُعتقد أنها بمثابة عرض وتحليل ضافٍ للشيء، في حينٍ، يجنح الشيء باستمرار إلى النأي بذاته عن كل مقاربة يقينية كي يظل محتجباً في قلب مقاربات محتملة ومستقبلية لن يتحقق أبداً حضورها، باعتبار أن التأطير النهائي للشيء، يعني نهاية القول فيه، يتحول إلى حقيقة مطلقة، والحال أن الكلمة السماوية، هي أيضاً تظلُّ دائماً بحاجة إلى إعادة القول، إلى إعادة الإنصات، بما هو تأمل دائم في أسرارها، وفي ما تخفيه، وما تضمره من معنى.
إن المعنى هو أكبر سرّ من أسرار هذا الوجود. ومن المؤكد أن دورة الأرض، ودورة الأجرام، وحركية التاريخ، والحروب الدموية الدائمة، والقائمة في الأرض كما في السماء، كلها نتاج البحث عن هذا المعنى. كذلك إن تعدد الأشكال وتعدد الأنواع الباحثة عن الدلالة، تظلُّ باستمرار عرضة للإجهاض. لذلك، إن الكتابة عن الشعر بما هو كونٌ محايث، أو كونٌ حيٌّ، مقيمٌ في نواة الكون، تظل دائماً بمثابة تلك المقدمة الحائرة، التي تبحث عن مدخل محتمل إلى قلب فضاء الحقيقي. ربما من أجل ذلك استُحدِث التعريف، كمحاولة لتحديد ما سيظل جاهزاً للانقلاب على دلالاته.

■ هل ذلك ما يجعلك تسأل باستمرار؟ هل يمكن القول إن المومني هو ذلك الشاعر المسكون بالسؤال؟
نعم، هناك حاجة ملحة للاقتراب من حدود السؤال، من أجل معرفة ما يلحُّ الوجود على إخفائه. من هنا يمكن القول إن كتاباتي الفكرية والتأملية نوع من المراجعة، والسؤال والتأويل للشعري بصيغة أخرى مغايرة لأي سلطة معرفية جاهزة. وقد تكون ردّاً فعلياً على هيمنة الكسل المعرفي في مقاربة نصوص الكون، التي تجد تبريرها في وجوب الامتثال إلى إكراهات الضرورة المتضمنة عادة لتلك الحقائق المشتركة، والقابلة للتبني، دونما إجهاد فكري أو إصرار ما على تفجير أنوية السؤال. كما هو ردُّ فعل لمقاربات نادراً ما تفصل بين واقع الخطاب وواقع شروط إنتاجه. كما لو أن دورة الأَجرام، هي محض حركة آلية تخلو من أي دلالة جديرة بالتظهير. وهو ما يدعونا إلى إعادة طرح الكثير من الأسئلة التي ربما كانت قد طُرِحَت من قبل، بحثاً عن أجوبة جديدة للمنسي واللاّمفكر فيه. ذلك هو المشروع المتواضع الذي أنا بصدد بلورة بعض ملامحه، وخاصة في السنوات الأخيرة، مستنداً في ذلك إلى الحرية التي انتزعتها من أكاذيب القيم المعرفية والثقافية والحضارية المتداولة بشكل فجّ. إن هذه الحرية هي التي تمضي بالسؤال إلى عتبات القول، إلى جديد مسالكه، وجديد إقاماته. إنها أيضاً محاولة لفهم عِللِ الكتابة، وجدواها، كما هي محاولة لمراجعة اليقينيات، أي تحرير الذاكرة المعرفية، كي تعيد النظر في مكوِّناتها، وآليات اشتعالها، حيث لا مجال للعفوية، التي تتنافى مع وجوب حضور الشرط العقلاني الذي ينبّهنا إلى أن الكتابة الشعرية هي أكثر من مجرد تفريغ لغوي عابر. لأنها وخلافاً لذلك، تمارين حقيقية من تمارين مواجهة العدم، مواجهة العبث ومواجهة الشكوك التي يحدث أن تطاول صدقية الكتابة التي تظل دائماً متورطة في القضايا الكبرى، ومطالبة بالإجابة عن تلك الأسئلة المؤرقة.
تسمح الكتابة الفكرية بإضاءة التجربة الشعرية. إنها مسار محتمل للاقتراب من أسرارها

■ ما هي هذه الأسئلة المؤرقة؟
أسئلة علاقة الذات بالحداثة، بالمتخيل، بالعدم، بالجسد في الأطياف اللّامرئية المحيطة بالصخب الكبير، وما يتخلله من صمت. إنها الكتابة/ الأسئلة المنفتحة على المعيش، المرئي والملموس خارج بؤس اليقينيات التي تُكره الخطاب على أن يظل أسير المسلّمات.

■ هل هذا هو محور كتابك الذي سيصدر قريباً؟
الكتاب الذي سيصدر قريباً عن «مؤسسة بيت الشعر» في المغرب يعبّر بشكل أو بآخر عن هذا الطموح المتمحور حول إمكانية إعادة تقويم الرؤية الشعرية للعالم، في إطارها الجمالي والعقلاني الذي يروم تبديد غير قليل من الحجب النظرية والفلسفية المسكوكة، التي تسهم في تغييب الملامح الأساسية لكتابة النص الشعري.

■ أنت أيضاً رسّام، لماذا؟ هل ما تعجز القصيدة عن قوله تقوله اللّوحة؟
الرسم عندي ليس تجربة قائمة الذات، بل امتداد طبيعي للكتابة الشعرية. والمعارض المتعددة التي سبق لي أن قمت بتنظيمها، تطرح سؤال الحوار المحتمل الذي يمكن تأسيسه بين الشعر والتشكيل. يمكن اعتبار المكون التشكيلي هنا، انتصاراً لجمالية القصيدة، التي تدعونا عبر هذه التجربة إلى إعادة اكتشافها من خلال أبعادها البصرية، بخاصة أنّ التشكيل هنا يتحوّل إلى مكوِّن مركزي من مكونات البنية الشعرية، لا مجرد مؤثث ثانوي لها، ولا سيما أنّ المواد التي أشتغل بها في هندسة الأشكال، هي المواد ذاتها الموظفة في الكتابة النصية، من حيث طبيعة الحبر، ونوعية الورق الذي يكون عادة في حجم الصفحة. من خلال هذه التجربة التي شرعت في تقديمها للجمهور المهتم منذ بداية التسعينيات إلى الآن، أعبّر عن قناعتي التامة بقابلية الشعر لفتح أكثر من حوار مع مختلف الأنواع الأدبية والفنية. فالشعر يوجد دائماً حيث توجد إمكانية للخلق والإبداع.

■ علامَ تراهن تحديداً في هذه المعارض الشعرية/ التشكيلية؟
ما يهمني في معارضي الشعرية التشكيلية، هو طقس القراءة الجماعي. النصوص المعروضة تُقرأ بمستويات مختلفة، محايثة، وموازية من قبل الحاضرين قراءة بصرية تأملية، وغير خاضعة لترتيب ترقيمي ما. إن النصوص ضمن هذا الإطار تستمتع بحياتها بشكل مغاير، ومختلف تماماً عن الصيغة التي تُستدعى فيها القاعة إلى سماع صوت الشاعر، أو الصيغة الحوارية ذات البعد الثنائي، الذي يختلي فيه قارئ ما بنصوص شعرية من أجل الاستمتاع المعرفي والجمالي بعوالمها. أما في فضاء قاعة العرض، فالطقس التفاعلي يكون جماعياً وفردياً في آن واحد. إنه نوع من الانتشاء المتعدد الأنحاء، بنصٍّ يصبح هو كذلك قابلاً للتعدّد والتنوّع.

■ ما هو رأيك في الشعر المغربي اليوم؟
قد تستغرب إذا أخبرتك أن معرفتي بالشعر المغربي الحديث، في السنوات الأخيرة أمست جدّ متواضعة، أي إنها تتوقف زمنياً عند الأسماء الأساسية لجيل الثمانينيات إلى جانب بعض الأسماء الشابة التي أكدت حضورها على الأقل بالنسبة إلى ضائقتي الشعرية والنقدية، بالنظر إلى غزارة الأسماء، التي تلتحق يومياً بالمشهد الشعري. كلما حاولتَ الإحاطة بالجديد من التجارب والأسماء، فوجئت بلائحة جديدة من الشعراء. بمعنى أن تقويمي للشعر المغربي الحديث، سيكون منحصراً في التجارب التي لها صلة مباشرة بأفقي الشعري زمنياً وإبداعياً، وفي ذلك ظلم للمشهد ولرموزه. أعتقد بأنني لست الوحيد الذي يؤكد هذه الحقيقة، خاصة أننا من حين إلى آخر نطّلع، بفعل صدفة ما، على كتابات تتناول تجارب راكمت الكثير من الإصدارات، وعلى امتداد عقد أو عقدين من دون أن تكون لي أي معرفة سابقة بها. هذا الانطباع ينطبق على شعراء بلغوا من العمر عتياً، حيث أفاجأ بغزارة إنتاجهم، بعد أن أُتيحت لهم فرصة الظهور. ومن المؤكد أن الشبكة العنكبوتية، قد لعبت دوراً كبيراً في تشجيع هذه التجارب كي تمارس حضورها، إذ أمست لكل مجموعة أسماؤها ورموزها، وفضاءات تواجداتها الخاصة بها، هو ما يقتضي مواكبتها بدراسات متعددة الاختصاصات، على الأقل من أجل وضع خريطة ممكنة للمشهد الشعري الجديد في المغرب. وهو أمر يبدو لي مستبعداً حالياً بالنظر إلى السرعة الفائقة التي يتحرك بها شريط الأسماء الجديدة. شخصياً، أتوقع أن المنطق الذي يشتغل به المشهد، هو منطق المحو الذاتي والآلي لما ينكتب، ولما يظهر تباعاً.

■ ما هو جديدك؟
الجديد يتشكّل دائماً في قلب هذا السفر الثلاثي الأبعاد، أعني الكتابة الشعرية، والتشكيل الشعري، والنصوص التأملية المؤطرة للتجربتين، عبر مسافات القرب والبعد، أي عبر المسافات التي يختفي عبر امتداداتها أفق الشعر مؤقتاً، على حساب هيمنة الفكري. ثم تلك التي يتحول فيها الشعري أو التشكيلي إلى مهيمنة محفوفة بأسئلتها. أمّا بالنسبة إلى طقس استشراف هذا الجديد، فيتطلب مني تلك اليقظة الدائمة، باعتبار أن الإبداع عموماً هو تلك المطاردة الدائمة لفرائس القول، حيث يقتضي أمل الفوز بها، مضاعفة طقس الإنصات، الرؤية والسفر الدائم في دواخلك، كما في دواخل الآخرين. في دواخل اللغات، كما في دواخل الأشكال.