حياة أهل «حيّ السريان» ليست محزنة جداً. بانسيابية سرده، استنطق الكاتب الحياة على ما هي عليه دائماً، أي بحلوّها ومُرّها. ليست حياة أهل الحيّ ما حدث فقط، بل هي غنيّة بالإمكانات الإنسانية، بكل شيء يمكن أن يكونه الإنسان وبكل ما يستبطنه أو يُظهرهُ خيراً أو شراً، وعلي السقّا لم يفعل سوى اكتشاف هذه الإمكانية الإنسانية أو تلك. في «حي ّ السريان» (دار الفارابي) باكورة الكاتب الشاب علي السقّا (1984)، أن تحيا يعني أن تكون في العالم الحقيقي. وهكذا هي الشخصيات وعوالمها. لا بدّ من فهمها كاحتمالات أو إمكانات. من يسقط في تجربة الشّر فهو ساقط الى الأبد، ومن يستدّل بقلبه، يصل الى الهدأة الروحية وإن عبر شريط الذكريات التي أفلت وانتهت.أنت كقارئ تتحضّر لقراءة عمل روائي أول لصحافي شاب عمل في صحف لبنانية عدة، ونشر قصائد ومقالات وتحقيقات ونصوصاً دورية.... تتحضّر لتغفر العثرات التي تطبع الأعمال الأولى، إلا أن السقّا يُعفيك من هذا الغفران ويُبهرك بأناة وصبر الروائي المتمكن من مادته وتفاصيلها.
التنقل السردي الرشيق يأخذ القارئ على غفلة منه، وهذه ميزة تُحسب لكاتب في باكورته. يعرض الكاتب بوضوح، وبتفاصيل باردة متمهلة، التفسّخ المتواصل للقيم، الشخصيات وقد حُبست في ذلك الحيّ كما لو في قفص. وعليها أن تجد طريقة للحياة، تناسب الاختفاء التدريجي للقيم العامة. ما يهّم الكاتب هو فهم الإنسان وهو يندفع في دوامة الخوض بين الشر والخير بمعناهما الأرضي ودلالاتهما الحقيقية، وفهم إيماءاته ودوافعه ومواقفه.
لقد اكتشف السقا أرضاً جديدة لروايته، مجهولة من بعضنا. أرض جديدة للحياة تعني إمكانية حياة، سواء أصبحت تلك الإمكانية واقعاً أو لا، فذلك بالنسبة للراوي أمر ثانوي، فالراوي ليس مؤرخاً ولا نبيّاً، انه مستكشف للحياة في حيّ ما أو قطعة أرض ما.
«حي السريان» هي في خصوبة شخصياتها، وتطورها المبهر والمكثّف بشدة، ودورها الاجتماعي بين فقير وغني، غالب ومغلوب، مؤمن ومدعي ايمان. كل ما كتبه السقّا في روايته، يتميز بأناته وفكره ويحمل صوته. لا يدّعي الأشياء ولا يصنع قضية كبيرة من أفكاره، فهو مستكشف يتحسس طريقه بوعي، كاشفاً بعض جوانب حياتنا اللبنانية.
التنقل السردي الرشيق يأخذ القارئ على غفلة منه

يقول الكاتب إنّه لم يكتب لمجرد الكتابة. فعل ذلك عندما شعر «بأن ثمة حكايا داخلي على وشك الانفجار، لذلك انصرفت الى الكتابة بشكل متقطع لمدة ثلاث سنوات. في اللحظات التي رأيت فيها تلك الالتماعة التي تحثني على الكتابة، فعلت وإلا ما كنت فعلتها على ما يقول تشارلز بوكوفسكي. لكن رغم ذلك، ظللت ولم أزل على قدر كبير من الشك بأن ما أصنعه سيكون رواية. كلما تصفحت عملي بعد إنجازه، أحسّ انه مجرد هراء لا قيمة له، لكني أتحول الى النقيض في الوقت ذاته، وأضحي مسكوناً بأنه سيلمس وجدان كثيرين. كتبت بنبض الروح والخيال. أردت أن أنقل عالماً حييت فيه عمري. أن أنقل لغته وهمومه وأحلامه بلغته أيضاً من دون تثاقف أو تنميق. لغة الشارع في عريها، تلك التي تمتلك الحقيقة دوناً عن أولئك المشبعون بنظريات لا تُشبع البطون الجائعة، ولا يملكون آذاناً تعرف الإصغاء الى صراخ أولئك.
أنا واحد من أولئك الذين يسكنون أحياء موسومة بالحقارة والخوف ولذلك كتبت. كتبت لأني منهم، ولن تستطيع أكبر الهامات أدباً أن تدرك كنه حياتهم بأدقّ تفاصيلها. كنت على قدر كبير من التعب حتى تلبست شخصيات الرواية كل واحدة بمفردها، وفي أحيان كثيرة بكيت لتفاصيل ومشاهد شكلتها وتفاعلت معها قبل كتابتها، حتى شعرت اني ضحية مخيلتي. عندما انتهيت من الرواية وقد أثقلتني كنت أصرخ في وجهي: عليك اللعنة، ماذا فعلت؟».
يستعرض الكاتب سيرتين مرتبطتين ومنفصلتين في آن. السيرة الأولى هي سيرة الواقع الاجتماعي اللبناني الذي بات بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية يكتنز الكثير من التناقض. يتجلى ذلك في فرض هوية طارئة على أحياء لا تزال تختزن ما بقي من رائحة بيروت. «حي السريان» هو نموذج متخيل لواحد من أحياء بيروت الذي راحت عملية «إعادة الإعمار» تأكل منه، من دون أي اعتبار لذاكرة أهله الجماعية، بخاصة أولئك الذين ولدوا فيه، أو وفدوا اليه منذ عشرات السنين، لحساب ارتفاع ابراج لم يعهد هؤلاء مثلها من قبل، ولا مكان لهم فيها. انتزعت إعادة الإعمار «حي السريان» من كونه مرآة لذاكرة التاريخ الطويل، الامتداد الاقتصادي والاجتماعي لبيروت القديمة، حيث تحوّل الحي الى مجرد مجاور جغرافي لوسط بيروت، مع ما يزخر به هذا التجاور من تناقض فاضح بين نمطين من الحياة أقرب ما يكون الى السوريالية. وهذا على كل حال، بات سياسة ممتدة على طول الخارطة اللبنانية يمكن أن نراها في طرابلس وصيدا وصور وغيرها.
ما يرسمه لنا السّقا في روايته بات سياسة عامة وليس حكراً على فئة أو جهة، ويمكن القول إن جهلاً عميقاً بدور الذاكرة ومكانتها في رسم المستقبل مسؤولة عمّا يحصل وهي تهدد تاريخاً بأكمله.
عبر شخصياته، بيّن لنا الكاتب هذا الجهل المدعوم بترسانة من المقولات والاعتقادات الحداثية القاصرة عن إدراك التاريخ والاجتماع وتحولهما، وهو مسؤول عن تلك النظرة القاصرة والقلقة والمدموغة بالنبذ لكل الأحياء الشعبية التي تزنر وسط بيروت. نظرة حداثية مضطربة وغير ناجزة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لم يبق منها سوى حداثة بنيانية قبيحة شاءت أن ترمي بأهل حي السريان خارج الحياة والتخلص منهم لصالح انجازاتها.
العمل الذي حشد له السّقا شخصيات من عالم سفلي، عرف كيف يدير حيواتها منها بقلوب دافئة ومنها بطابع شرير ومنها من قدّم الدم دفاعاً عن ارضه، وهناك من رأى في المقاومة مطية لمراكمة المال. لكنه أضاء على من تصالحوا مع تجاورهم لوسط بيروت من خلال الركون الى ذاكرتهم، إلا أنّ غايته كانت ذلك الجيل الجديد الذي ولد بعد الحرب ولا يعي أنّ الفقر هوية اجتماعية. لذلك دفع ثمن تفشي قيم الاستهلاك الجديد.