بهدوء ورصانة يدخل الشاعر السوريّ زياد جبيلي عالم القصيدة عبر باكورته "لا غيم يقود العربة" (دار أرواد ـ 2015). الشّاعر الشّاب اختار أن يسم مجموعته بوسم "نصوص" في محاولة منه لحماية منجزه مما قد يلحق بالقصيدة من نقد، حين تفصح عن نفسها كقصيدة، أو خجلاً من شعراء سبقوه فقرأهم بشغف وحب، واحتفظ لنفسه بالخفر من الانضمام إلى ركبهم، أو ربّما يكون ذلك محض إيمان بأنّ ما يكتبه هو نصوص مفتوحة على احتمالات شعوريّة متعددة. غير أنّ ذلك كلّه سيغدو بلا قيمة مع قراءة السطور الأولى من المجموعة، والتي تفصح عن شعريتها بجرأة تفوق رصانة كاتبها وهدوئه، "في منزلكَ الذي يتكئ على الزاوية / لم يحدث شيء خارق للعادة/ مازال فارغاً".
تقرّر نصوص جبيلي منذ اللحظة الأولى انتماءها إلى النثر. لا يعد الشاعر بقضايا كبرى ينسج قصائد عنها، فالحياة جملة لا نهائية من التفاصيل، وكلّ تفصيل فيها هو قضيّة كبرى تحكمه صدفة ما. صدفة لن تمنع الحياة من مواصلة سيرها، غير مكترثة بحدث ربّما يكون بحجم كارثة حين يغيب أحدهم، غير أن ما يكون هو "أنت وحدك فقط/ لم تعد موجوداً/ لم تعد موجوداً/ فقط".
يبدو محتفظاً بحبل سرّة يربطه بالماغوط ورياض الصالح الحسين

أوّل ما يتبادر إلى الذهن، حين يقع بين يديك كتاب لسوريّ، هذه الأيّام، هو أنّك ستكون على موعد مع الحرب وتفاصيلها، غير أنّ "لا غيم يقود العربة" يخرج عن السياق. النصوص المكتوبة بعناية، والمشغولة بتأنٍ يشي بأنها خلاصة تراكم شغلٍ طويل الأمد، تمدّ غيومها إلى الحياة برمّتها، ويبدو الشاعر فيها هو من يقود غيومه نحو قصيدة يتطلّع إليها بشغف. وأمام اتساع فضاء المجموعة، تحضر الحرب بالقدر ذاته الذي يحضر فيه بائع الفول، والطفل في المدرسة، والحب، والرغبة، والحلم، وغيرها من مفردات الحياة: "الكلّ في مكانه المعتاد/ الآنية على الطاولة/ والعامل على السطح/ وساعتك في يدك/ حتى صاحب الدكان بقي مكانه/ يوم استقرت في حضنه قذيفة".
يمتدّ عبث جبيلي على مساحة النصوص المكتوبة، كثيمة مشتركة، وكأنّ الشاعر الشاب أدرك مبكراً أنّ العبث وحده ما يفسّر الحياة "هناك / حيث تتنفس السماء من فمها"، و"هناك/ حين يخون الصوت فمه / وتصبغ الأمهات ثيابهن بالتراب / وتنجو فقط آية الكرسي". وعلى الرغم من اتساق نصوص المجموعة لغةً وشعراً، غير أنّ الشاعر لم يركن فيها إلى أسلوب واحد في البناء، فلكلّ نصّ بناؤه المحكم الذي لا يشبه ما سبقه أو ما تلاه. هذا ما يتضّح بشكلٍ جليّ في البناء المقطعي لقصيدتي "نهارات الربع الخالي" و"عشر ليال في مديح الرّكام"، وكذلك في الأصوات المتعددة والمتنوعة تحت عنوان "تحسّس أصابع غادرت في سترة ربيعية"، المختلف كليّاً عن أسلوب بناء نصوص أخرى اعتمدت صوتاً واحداً يتكرر على إيقاع الحالة الشعورية، كما في "رتيب وممل وباهت".
في تطبيق لما قاله يوماً الشاعر التشيكي يان سكاسل "لا يخترع الشعراء القصائد، فالقصائد موجودة في مكان ما هناك، ولا يفعل الشاعر شيئاً سوى أن يكشف عنها"، تأتي نصوص جبيلي نتيجة نحت دؤوب في الفضاء الشعري، لاستخراج القصيدة من رحم الحياة اليوميّة، وكذلك نتيجة مخزون شعري يفصح عن نفسه. هكذا يمكن للقارئ أن يلمح أطياف شعراء كثر تطلّ بين فينة وأخرى من بين غيوم جبيلي، الذي يبدو محتفظاً بحبل سرّة يربطه إلى من سبقوه من شعراء النثر، فمثلما يحضر طيف محمد الماغوط، يحضر رياض الصالح الحسين، ومنذر مصري، ونوري الجراح. لا يكتفي جبيلي بذلك بل يتعداه للارتباط بشعراء من جيل سبقه مباشرة، مثل محمد دريوس ومازن الخطيب، ولا يتردد بإهدائهم بعض نصوصه. غير أنّ هذا الحضور وإن استطاع أحياناً التشويش على صوت الشاعر الخاص، إلا أنّه من ناحية أخرى جعل نصوصه تبدو كامتداد طبيعي لقصيدة النثر العربية عامّة، والسورية خاصّة.
يمكن اعتبار باكورة "لا غيم يقود العربة" بمثابة إعلان عن ولادة شاعر يخطو في عالم قصيدة النثر بثقة، ليتمكن مع مجموعة من الشعراء الشبّان، الذين راحت إصداراتهم تتوالى مؤخراً، أن يكونوا نواة لنثر سوريّ جديد، إن لم يركنوا للاستسهال لاحقاً، وإن تمكنوا من استثمار مخزونهم لإنتاج أصواتهم الخاصّة حيث النهار "نهار ينزلق/ لا شمس تحمي التوقّع/ لاغيم يقود العربة".