حتى النوم تحت شجرة الأكاسيا يصبح مهيناً بالنسبة للدجاجة «براعم». فشجرة الصمغ هذه والشبيهة في شكلها بمظلة ليست بالضرورة ملجأ آمناً للهاربين. و«براعم» دجاجة اختارت اسمها بنفسها تيمناً بشجرة الكرز. كاختيارها بعد ذلك عصيان النظام العام للحظيرة، والفرار. في البداية، ستسلخ عنها الوظيفة التي ألصقت بها، والتي شكلت هويتها بين الحيوانات. فتقرر ألا تبيض. لماذا يذهب بيضها إلى المزارع فيما تحظى دجاجات أخريات بفرصة احتضان بيضهن ورعايته حتى يفقس. شعورها بأن ثمة من صادر حقها بأن تصبح أماً يدفعها لأن تمتنع عن الأكل. ما يؤثر على ريشها الذي يتساقط عن جسمها، وبيضها الذي يصبح مع الأيام أصغر حجماً، ثم لاحقاً، طري القشرة. لكن «براعم» تحظى بفرصة الفرار عند اقتيادها للإعدام مع عدة دجاجات مريضات. فتهرب وهي على شفير الهلاك.
يساعدها في ذلك ذكر البط «شريد»، وهو من الصنف البري. لكن «شريد» يعاني من عطب في جناحه بعد عراك مع ابن عرس، وهو ما يمنعه من الطيران والهجرة إلى الشمال. لكنه يعرف العالم جيداً خارج الحظيرة. ويطوّق نفسه بالحذر دوماً من ابن عرس هذا، الذي يفترس الطيور.
العدو هذا يفوق بني جنسه فظاظة وشراسة وقوة. ويكون على «براعم» أن تحتاط بدورها آخذة بإرشادات «شريد». غير أن صديقها البري هذا، الداعم والشجاع، يقضي نحبه ذات ليلة، إذ تفتك به غدراً أنياب العدو. لتجد دجاجتنا نفسها تحتضن البيضة الوحيدة التي ولدتْها حبيبته البطة الجميلة والتي تكون قد سبقته قبل أيام إلى معدة المفترس نفسه. هكذا تصبح «براعم» نفسها أماً لمولود، ملامحه وأطرافه وحركاته صغيرة، إلا أنه بُطيطة، وليس صوصاً. شعورها بالأمومة يصرفها عن أية تفاصيل شكلانية، فطفلها لا يشبه الدجاج في عاداته، هو محتاج لأكل السمك وفي مرحلة ما سيكون عليه تعلم الطيران. من هنا تبدأ حكاية أخرى، تحكي فوارق جمة بين كينونتين متقاربتين، والعوائق التي تحول دون تكاتفهما.
إنها خلاصة رواية «الدجاجة التي حلمت أن بإمكانها الطيران» (بينغوين) للكاتبة الكورية الجنوبية هَيْ زَنْ مي (1963)، ويُكتب اسمها باللاتينية كـ «سن مي هوانغ». «براعم» التي لم تطر في الرواية، حملت على أرض الواقع اسم كاتبتها عالياً في أكثر من اثنتي عشرة لغة. والأرجح أن هوانغ المحبوبة في بلادها، لم تتوقع أن الشخصية البسيطة التي ابتكرتها، سيكون لها ريش يبرق في عيون النقّاد حول العالم.
كانت هَيْ زَنْ في الثالثة عشرة عندما قرأت أول رواية. كان الكتاب عملاً مكتوباً للأطفال. وعرفت هوانغ إثر انتهائها من قراءته أنها لن تمتهن أي شيء مستقبلاً سوى الكتابة. غير أن فقر العائلة كان له «كلمة» أخرى. لتجد الفتاة نفسها فجأة خارج المدرسة في المرحلة المتوسطة.

«براعم» التي لم تطر، حملت اسم كاتبتها عالياً في أكثر من اثنتي عشرة لغة
من زاوية فقرها، كانت تنظر إلى أترابها الأطفال كل صباح بعيني من تريد أن تقرأ كل الكتب في حقائبهم. لتغدو غرفة الصف الصغيرة والمتواضعة والعادية جنة ملأى بالأصوات والحروف والشخصيات المكتوبة. لكن أستاذاً لاحظ شغف الفتاة وتطلعها النهم للقراءة. فأعطاها سراً مفتاح غرفة الصف. وهكذا، أصبحت هَيْ زَنْ تشغل غرفة الصف بعد رحيل التلاميذ. وحيدة، تقرأ كل الكتب بصمت، بعيداً عن واقع عائلتها.
عناد الصغيرة في اللحاق بحلمها، سيتجلى لاحقاً في مؤلفاتها. فهي غالباً ما تختار شخصيات غير مألوفة، ولا بطلة. الدجاجة مثال للجبن والتواضع وقلة الحيلة وضعف الإمكانات في الدفاع عن النفس، وبالتالي الثقة في النفس. لكن هَيْ زَنْ أكسبتها قيماً أخرى، كرغبتها في اكتشاف العالم خارج الحظيرة، وإصرارها في أن تصبح أماً، وتنجو بنفسها في بيئة يسيطر عليها حيوان ابن عرس الذي تكتشف لاحقاً أنه أنثى وليس ذكراً، بل وأم أيضاً. غير أن لهذه الدجاجة، البلهاء والمُثَابِرة في آن واحد، جذوراً مستوحاة من أبيها تحديداً، الذي توفي بُعَيد صدور الطبعة الأولى من الكتاب.
لكن الرواية، وعلى الرغم من تلوّن شخصياتها ووسمها بأسماء مجازية «طفولية» تذوب في الحبكة وتصبح بمثابة إشارات دالة على اتجاه السرد، إلا أنها ترخي في سينوغرافيتها على الأقل، ظلالاً سياسية. فالبطلة، ستتنقل بين مكانين وكتلتين من الشخصيات. فالحظيرة المسيّجة والمراقَبة جيداً و«الآمنة»، يجاورها امتداد طبيعي مغر، لكن ضاج بالمخاطر، والتمسك بالأحلام فيه مأمورية يومية شاقة. وهو ما يحيلنا على الكوريتين، التوأمين اللدودين. بذلك نستطلع تلك العلاقة الإشكالية بين الأفراد الذين ترسم الخلافات السياسية حدوداً جديداً لهويتهم وترسّخ فيهم انحيازاً ضيقاً لبيئتهم. إسقاط يتداخل والخلاصات التربوية والميلودرامية التي توفرها الرواية. لكن هوانغ، وبتنشيطها الحوارات والأحداث الصغيرة، وعبور «براعم» السلس والمتكرر بين البيئتين، تقرّب بينهما كما لو أنها تتخطى كاميرات المراقبة وقناصة الحدود. إنه حصان الفنتازيا الذي تمتطيه الكاتبة على الورقة للقفز فوق سياج أرض الواقع.