يقف الاقتصاد التونسي أمام أزمة قد تكون هي الأشدّ في تاريخه. ففيما ترى المؤسّسات الغربية أن لا حلّ أمام تونس سوى الموافقة على شروط صندوق النقد الدولي لإقراضها بما يسهم في إخراجها من أزمتها قبل انهيار أكبر، فإن القيادة السياسية التونسية، والاتحاد العام التونسي للشغل، يرفضان هذا الخيار. عملياً، ترفض تونس تكرار تجربتها في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي التي نفذتها بين عامَي 1995 و2010، والتي وصفت نتائجها في حينها بـ«المعجزة الاقتصادية»، فما هي البدائل المتاحة؟
«معجزة» إخفاء الحقائق
يتصدّر نموّ الناتج المحلي التونسي في صدارة نتائج العلاقة مع صندوق النقد الدولي أو ما يُعرف بـ«المعجزة الاقتصادية التونسية». فقد بلغ معدّل النمو الوسطي بين عامَي 1995 و2010 نحو 4.5%، وهو يُعدّ معدلاً مرتفعاً قياساً على ما يحصل مع الدول النامية الأخرى. كذلك حقّق الاقتصاد التونسي، خلال الفترة نفسها، تقدماً في مؤشر التعليم مرتفعاً من 0.403 نقطة في عام 1990 إلى 0.622 نقطة في عام 2010، إذ أصبح التعليم الأساسي شاملاً للجميع تقريباً. أيضاً ارتفع مؤشّر الصحة من 0.751 في عام 1990 إلى 0.840 في عام 2010، فضلاً عن انخفاض معدّلات الفقر المدقع من 12% في 2000 إلى 7.4% في عام 2011، وانخفاضاً في معدّلات البطالة من 15.9% إلى نحو 13%، وتحسناً على صعيد الخدمات العامة والبنية التحتية، ولا سيما في خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

في الواقع، إنَّ لغة الأرقام الخالصة والانتقائية التي روّجت لما سمّي «معجزة اقتصادية» في تونس برعاية صندوق النقد الدولي، تخفي ضعف الكفاءة الاجتماعية لهذه الفترة، وتتجاهل الهشاشة الاقتصادية التي انتشرت في الاقتصاد التونسي، أي تتجاهل إمكانات الاقتصاد التونسي الكبيرة، ولا سيما في الزراعة والموارد الطبيعية (الفوسفات تحديداً)، والتي استُنزفت خلال فترة «المعجزة». وخلف جدار المؤشرات الإيجابية، أخفيت الحقائق الاجتماعية. فمعدل البطالة الذي تراجع بنحو 2.9% لم ينخفض عملياً لأن النموّ السكاني أبطل الثمار الضعيفة لهذا الانخفاض، أي إن البطالة بالأرقام المطلقة قد ظلّت على ما كانت عليه عند مستوى 13%. وإلى جانب ذلك، فإن نسبة المتعلمين أو الحاصلين على تعليم متوسط وعالٍ، تصل إلى 50% من إجمالي العاطلين من العمل، وهو ما يدلّ على اختلال في بنية الاقتصاد التونسي وعجزه عن الاستثمار في الكفاءات العلمية، وتركّز استثماراته في قطاعات ضعيفة الإنتاجية، أي إن كفاءته في توليد فرص العمل كانت ضعيفة وغير ملائمة.
أما بالنسبة إلى ما قيل عن تراجع معدلات الفقر المدقع ودلالاتها على النجاح الباهر لهذه الفترة، فإن الترويج للتراجع النسبي غطّى على ارتفاع الأرقام المطلقة، أي إن انخفاضها تأثّر جزئياً بارتفاع أعداد السكان. كما أن انخفاض معدلات الفقر المدقع يغطّي على حجم اللامساواة المتفاقم في تونس حيث تتركّز الثروة والدخل في يد قلّة مقابل شريحة واسعة من المُفقَرين في تونس، إذ تصل حصة شريحة الـ10% الأعلى دخلاً إلى أكثر من 42% من إجمالي الدخل الوطني في حين أن حصّة 50% من الشعب التونسي الأقل دخلاً لا تتجاوز 15.6% من إجمالي الدخل الوطني. وعلى صعيد توزيع الثروة الوطنية، فالفارق يظهر أكثر اتساعاً، إذ إن حصّة شريحة الـ10% الأكثر ثراءً في تونس تصل إلى أكثر من 58% من إجمالي الثروة الوطنية، وفي المقابل إن نصف الشعب التونسي الأقل ثراءً لا يملك سوى 4.8% من إجمالي الثروة الوطنية.
وفي هذه الفترة تحديداً، تراوحت معدلات التضخّم بشكل مستمر بين 3% و5%، ما انعكس سلباً على القوّة الشرائية للعاملين بأجر، وما يعنيه ذلك أيضاً من زيادة في حدّة اللامساواة والتفاوت الطبقي.
يُضاف إلى ما سبق، استمرار تفاوت التنمية الإقليمي، إذ لطالما عانت الأقاليم الشمالية الغربية (بنزرت ونابل..) والوسطى الغربية (القيروان والقصرين..)، والجنوبية (تطاوين ومدنين..) من الحرمان والتهميش. ففي هذه الولايات يرتفع معدل البطالة إلى الضعف مقارنةً بمنطقة تونس الكبرى والولايات الشمالية الشرقية حيث يتركز النشاط الاقتصادي، بل إن التفاوت الإقليمي يصل إلى حدّ التفاوت في مستوى الخدمات العامة بما فيها الكهرباء والماء والصرف الصحي.

انقر على الجدول لتكبيره


هشاشة الاقتصاد التونسي
لم يكن ضعف الكفاءة الاجتماعية المشكلة الوحيدة في تلك الحقبة، بل إن استمرارية تلك السياسات الاقتصادية نفسها لم تكن ممكنة من دون الاصطدام بأزمات اقتصادية، وعلى رأسها أزمة الديون الخارجية، التي يمكن الاستدلال عليها من اعتمادية نموّ الاقتصاد التونسي على الاستدانة، إذ إن نسبة الديون الخارجية إلى إجمالي الناتج المحلي لم تكن مستقرّة بالدرجة التي تسمح بالوفاء بالديون من دون تسجيل عجز، ولا سيما في السنوات التي يتعرض فيها الاقتصاد التونسي لأزمة اقتصادية تأثراً بظروف محلية (جفاف) أو بحالة الأسواق الدولية. على سبيل المثال في عام 2002 (أزمة الدوت كوم)، وفي عام 2009 (أزمة الرهن العقاري الأميركي). كما أن حجم النمو الاقتصادي كان يتناقص بمقدار نصف نقطة سنوياً.
تعود هذه الهشاشة إلى بنية الاقتصاد التونسي التي يغلب عليها القطاع الخدمي التجاري، الذي زادت حصّته من النشاط الاقتصادي بين عامي 2000 و2010 من 43.1% إلى 44.6%، كما ارتفعت الأنشطة غير التصنيعية من 11.9% إلى 14.3%. في المقابل، إن حصّة القطاعات الإنتاجية كانت آخذة في الانخفاض. فقد انخفض القطاع الصناعي في نفس الفترة، بمقدار نصف في المئة، وانخفض قطاع الزراعة والثروة السمكية من 11.3% إلى 8%. أي إن إمكانات الاقتصاد التونسي للنموّ ذي القيمة المضافة محدودة للغاية، وقدرته على توظيف الوافدين الجدد إلى سوق العمل باتت ضئيلة للغاية، ولا سيما أن الاستثمارات في الصناعة كانت تتركز على الأنشطة التي تعتمد على تكثيف رأس المال.
تكرار تونس للتجربة مع سياسات صندوق النقد الدولي سيكون أسوأ الخيارات


وما يعزّز الاستنتاج المتعلق بهشاشة الاقتصاد التونسي، هو العجز التجاري الخارجي المتواصل. فعلى مدى ثلاثين عاماً، كانت نسبة تغطية الصادرات التونسية للواردات تُراوح بين 68% و70%. إلى جانب أن نوعية الصادرات التونسية تتأثّر بتقلبات السوق الدولية، إذ إن نحو نصف الصادرات يتوزّع ما بين الصادرات المنجمية والسياحة، في حين أن الصادرات الأخرى التي تتركّز في الزراعة ومنتجات الصناعات التحويلية تتركّز وجهتها نحو السوق الأوروبية وما يعنيه ذلك من تأثّرها في العلاقات السياسية بين الجانبين وحالة الأسواق الأوروبية. إن افتقار الاقتصاد التونسي لمحرّكات النمو الذاتي وتأثّره الشديد بتقلّبات أسعار الصادرات المنجمية، والأسواق الأوروبية يعني أنه اقتصاد موجّه نحو الخارج وعلى درجة عالية من التبعية.
إن استمرار أزمة الديون في تونس، يشير إلى هشاشة اعتمادية الاقتصاد التونسي على الدين، خاصةً مع استمرار عجز الميزان التجاري وارتفاع التضخم، وبلوغ النموّ مداه الأقصى. وبالتالي كان تضخم الديون واستفحال أزمتها نتيجة طبيعية لتطبيق سياسات صندوق النقد الدولي إلى جانب الفساد المالي والإداري الذي عانى منه الاقتصاد التونسي في تلك الحقبة.

البدائل الممكنة
إذاً، من الواضح أن تكرار تونس لتجربة سياسات صندوق النقد الدولي سيكون أسوأ خيار. فأزمة الاقتصاد التونسي اليوم أكبر مما كانت عليه في عام 2010، لأن حجم الديون الخارجية وصل إلى أكثر من 90% من إجمالي الناتج المحلّي. وشروط صندوق النقد الدولي لإقراض تونس، ستهدّد السلم الاجتماعي لما تتضمنه من إلزامات تقشّفية على الإنفاق العام، وخصخصة المؤسّسات الحكومية الإنتاجية، وغيرها من الالتزامات المشروطة التي ستولّد مزيداً من الفقر والتضخّم واللامساواة، بالإضافة إلى زيادة التبعية الاقتصادية لتونس. كما أن خيار الاقتراض، حتى لو نجحت الجهود الديبلوماسية التونسية في الحصول على قروض غير مشروطة أو بشروط مخففة، فإنها لن تكون سوى حلّ مؤقت، إذ سرعان ما ستعود الأمور إلى التفاقم مرة أخرى.
يتطلب الأمر اجتراح سياسة اقتصادية تنموية عبر توافق سياسي بين الأطراف التونسية. إذ إن رفض جهات فاعلة للخطط الاقتصادية، كالاتحاد العام التونسي للشغل، سيعطّل تطبيقها. أما اقتصادياً فيجب أن يبتعد الاقتصاد التونسي عن الإفراط في الاعتماد على ظروف الأسواق الأوروبية، وهذا يجنّب تونس الابتزاز السياسي الذي تمارسه قيادات أوروبا مقابل منافع اقتصادية على حساب تونس.
يحتاج الاقتصاد التونسي لتدعيم قطاعات الإنتاج المادي بشقيه الصناعي والزراعي، وتنويع علاقاته الاقتصادية الخارجية، ولا سيما مع دول الجوار التونسي، فالمغرب العربي لطالما وصف بـ«جزيرة المغرب» التي يفصلها عن أوروبا البحر المتوسط، وعن أفريقيا صحراء شاسعة. وعليه، فإن بناء علاقات اقتصادية في الجوار التونسي، سواء على صعيد التبادلات التجارية أو الاستثمارات والائتمان، يمكن أن يساعد تونس في بناء اقتصاد أكثر متانةً واستقراراً بدلاً من أن تضع تونس جُلّ اقتصادها في سلّة القادة الأوروبيين.

* باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي والعلاقات الاقتصادية الدولية في كلية الاقتصاد- جامعة حلب