لطالما كان التنويع الاقتصادي هدفاً في أجندات السياسات الاقتصادية في دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية، إلا أن نتائج هذه السياسات ظلّت متواضعة ولم تُخرِج الاقتصاد السعودي بعد من نموذج الدولة الريعية. لكن في السنوات القليلة الماضية، وتحديداً بعدما أطلقت المملكة رؤية «2030» التي توصف أيضاً بخطة «ما بعد النفط»، فإن الاقتصاد السعودي أحرز تقدّماً ملحوظاً على مؤشر التنويع الاقتصادي، لكن السؤال الأساسي لا يزال قائماً: هل يمكن للاقتصاد السعودي التخلُّص من «المرض الهولندي»؟ 
اقتصاد ريعي
ظهر مصطلح المرض الهولندي في أواخر الخمسينيات حين اكتُشِفتْ كميات كبيرة من الغاز الطبيعي في بحر الشمال، وهو المورد الذي تحوّل إلى عامل لتراخي الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية المنتجة، وعزوف الكثيرين عن العمل بعد ارتفاع الإنفاق الحكومي، وتراجع الاعتماد على الضرائب مع الوفورات المالية التي أمَّنها تصدير الغاز. وُصفت هذه الحالة بالمرض، نسبةً إلى ما تسبّبه من ضرر في الاقتصاد المتعرّض لها. فمن أعراضها انعدام استقرار الاقتصاد الكلي، وتفاوت معدلات النمو الاقتصادي، والاعتمادية على الخارج، وشيوع الاستهلاك الترفي ومظاهر البذخ، والبطالة بين أفراد المجتمع. باختصار، هي حالة تسبب حدوث تغيير هيكلي في الاقتصاد ما يجعله اقتصاداً ريعياً أو شبهَ ريعي. وهذا بالتحديد ما أُصيب به الاقتصاد السعودي الذي يُعدّ واحداً من أبرز الأمثلة للدول الريعية، وغالباً ما ظهرت عليه أعراض المرض الهولندي؛ فإلى جانب الاختلال الهيكلي في الاقتصاد السعودي، أي الانخفاض النسبي لأهمية قطاعي الزراعة والصناعة لحساب قطاع النفط، فإن معدلات النموّ الاقتصادي في المملكة تعرّضت لتذبذب كبير جراء التفاوت في أسعار النفط عالمياً، ولا سيما في السنوات الأخيرة مع تخبّط سعر برميل النفط الخام بشدّة مُراوحاً بين 45 دولاراً و80 دولاراً خلال الفترة الممتدة بين عامَي 2017 و2022).

إمكانات التنويع
يعتمد التحوّل من الريع إلى التنمية القائمة على التنويع الاقتصادي، على عدد من المحدّدات الأساسية الواجب توافرها في البلد المعني. ففي هذا المجال، وبخلاف اقتصادات الخليج الأخرى، فإن السعودية تملك إمكانات تؤهلها، نظرياً، لإجراء هذا التحوّل. بل، الآن، يبدو الأمر أقرب إلى فرصة تاريخية لإجراء تحوّل كهذا. فمن جهة الموارد البشرية، تُعدّ المملكة من الدول الشابة، وذلك بحسب الإحصاءات الصادرة أخيراً عن الهيئة العامة للإحصاء، إذ إن نحو 36% من السعوديين (6.8 ملايين سعودي من أصل 18.8 مليون مواطن) تُراوح أعمارهم بين 15 و34 عاماً. كما تملك السعودية نسبة مرتفعة من الأفراد المتعلمين، إذ تصل نسبة الحاصلين على شهادة أعلى من الثانوية العامة إلى 33%. كما تتمتع بقاعدتين زراعية وصناعية يمكن الانطلاق منهما، إذ تبلغ مساحة الأراضي المستغلّة زراعياً في السعودية نحو 1.14 مليون هكتار، وتبلغ نسبة الاكتفاء الزراعي من السعرات الحرارية نحو 34% و47% من لحوم الدواجن وأكثر من 122% من الحليب، ونحو 30% من اللحوم الحمراء. أما قيمة الناتج الزراعي السعودي فتبلغ نحو 19 مليار دولار. علماً أن نحو مليون سعودي يشتغل في القطاع الزراعي. أما في الصناعة فيتوفر في السعودية قاعدة جيدة في الصناعات التحويلية، وخصوصاً في الصناعات البتروكيماوية والتشييد والبناء والصناعات الغذائية. وبلغ إجمالي قيمة الصناعات التحويلية في المملكة أكثر من 9 مليارات دولار (إحصاءات عام 2021).

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وإلى جانب الإمكانية الاقتصادية والموارد البشرية، فإن الوفورات المالية التي تؤمِّنها التدفقات النقدية من الصادرات النفطية تمكّن الاقتصاد السعودي من الدفع في تنفيذه خططه، إذ وصل حجم الناتج المحلي الإجمالي السعودي في عام 2022 إلى نحو تريليون دولار.
كل ذلك يتطلب استقراراً سياسياً داخلياً وأوضاعاً إقليمية مؤاتية يتم ترتيبها على وقع الاتفاق السعودي - الإيراني. وهذا ما يمكِّنها من المضي قدماً في «خطّة ما بعد النفط» الذي تظهر بوضوح في أجندات رؤية 2030 السعودية.
في الواقع، يمكن ملاحظة التقدّم الذي أحرزه الاقتصاد السعودي على صعيد التنويع الاقتصادي بالاستناد إلى مؤشر التنويع الاقتصادي الذي صدر للمرة الأولى عام 2022. هو مؤشّر مركّب يقاس على أساس المتوسط الحسابي (البسيط) لثلاثة مؤشرات، هي: التنويع في الإنتاج، التنويع في التجارة الخارجية، وتنويع الإيرادات الحكومية. وبدورها، تتكون هذه المؤشرات الثلاثة من مجموعة مؤشرات داخلية من أبرزها مؤشّر التعقيد الاقتصادي الذي كان يضع الاقتصاد السعودي في عام 2000 من بين الدول العشر الأسوأ على صعيد التنويع الاقتصادي إلا أنه في عام 2016 لم تعد تظهر السعودية في هذا التصنيف، بل تقدّمت بين عامَي 2010 و2021 نحو 9 نقاط بفضل مؤشّر التنويع في الإنتاج والصادرات.

التنمية المعتمدة على الذات
إن الاقتصاد الذي يعتمد على سلعة أو مجموعة من السلع الموجهة إلى الخارج هو اقتصاد يخضع لشروط النموّ وميكانيزمات التكيّف في المراكز الرأسمالية. فرغم دور «أوبك»، و«أوبك+» في تقليل التحكّم الغربي في أسعار النفط، إلا أن اعتماد الاقتصاديات الريعية على استيراد احتياجاتها من الخارج جعل من رفع سعر النفط أقل فعالية. الفوارق التي يصنعها ارتفاع أسعار النفط تظهر في ارتفاع أسعار المستوردات وبالتالي تستردّ المراكز الرأسمالية جزءاً كبيراً من فرق أسعار النفط من ارتفاع أسعار صادراتها، وهو ما ظهر بوضوح عقب الطفرة النفطية في عام 1974، وأخيراً بعد الهزات التي تعرض لها الاقتصاد العالمي، حيث ارتفعت أسعار الكثير من السلع الاستهلاكية وذات التقنية العالية بعد ارتفاع أسعار الطاقة، وهذا ما يؤكد أهمية التنويع الاقتصادي والوصول إلى مرحلة السيادة على الغذاء، وتوظيف الاستثمارات في الصناعة سيّما تلك التي يتوفر فيها مزايا نسبية.
السياسات الاقتصادية السعودية الجديدة حققت تقدماً على جبهة التنويع الاقتصادي لكنها لا زالت تُظهر انحرافاً يتمظهر في البذخ على قطاع الترفيه


لذا، فإن انتقال الاقتصاد السعودي من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد متنوّع يتطلّب تحوّلاً جذرياً في السياسات الاقتصادية لجهة إخضاع أرباح العوائد النفطية (وغيرها من الموارد الخام) إلى ميكانيزمات اقتصادية تربط القطاعات الاقتصادية الثلاثة (الزراعة- الصناعة- الخدمات) ببعضها ضمن حلقة متكاملة، أي تصنيع النفط والموارد الزراعية والمنجمية الأخرى للحصول على منتجات مصنعة، وتوظيف قطاع الخدمات لهذا الغرض أيضاً. فحتى في المنظور الريكاردوي للتبادلات التجارية، فإن توفّر مادتي النفط والغاز بكميات كبيرة يُعدّ ميزة نسبية للاقتصاد السعودي في قطاعَي الصناعة والزراعة، إذ تُعدّ كلا المادتين أساسيتين لأكثر من 6 آلاف سلعة استهلاكية وعالية التقنية، إلى جانب أهميتها المرتفعة في الإنتاج الزراعي. وبالتالي تمثّل هاتان المادتان إحدى المداخل الرئيسة لإدخال الاقتصاد السعودي في الإنتاج الصناعي الموسّع، وهو ما يتطلّب بالضرورة إخضاع التبادلات التجارية الدولية للمملكة، إلى آلية التنمية الاقتصادية الداخلية أو كما يسميها سمير أمين «التنمية المعتمدة على الذات». أما في حال اتجه الاقتصاد السعودي نحو رفع شأن قطاع الخدمات، وتحديداً في مجالات الترفيه والسياحة والخدمات المالية، فإنه سيزيد من عمق الداء الهولندي، وينقل عدواه من الموارد الطبيعية إلى القطاع الخدماتي السياحي والمالي. وهو ما تظهره التوجهات الاقتصادية السعودية لجهة الاهتمام البالغ في قطاع الخدمات والسياحة والترفيه، بالإضافة إلى التطوير العقاري.
في الخلاصة، إن السياسات الاقتصادية السعودية الجديدة، ورغم تحقيق تقدّم لا يمكن إنكاره على صعيد التنويع الاقتصادي، وفضلاً عن الإمكانات الهائلة للاقتصاد السعودي، إلا أنه لا يمكن وصفها بأنها سياسات جذرية وحاسمة في توجهاتها، ولا سيما مع الانحرافات التي تظهرها لجهة الإنفاق البذخي على قطاع الترفيه.

* باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي والعلاقات الاقتصادية الدولية في كلية الاقتصاد- جامعة حلب