«لماذا تحتاج القلّة الحاكمة في الولايات المتحدة، اليوم، لتحتفظ بجهاز عسكري ضخم بينما اعتادت أن تمضي قدماً بجهاز أصغر؟»
بول باران وبول سويزي، رأس المال الاحتكاري – بحث في النظام الاقتصادي والاجتماعي الأميركي- هذا المقال يعتمد بشكل أساسي على هذا الكتاب.



منذ ظهور مشروع مارشال 1947 بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى نهاية العام الماضي 2022، لم ترسل الولايات المتحدة الأميركية أي مساعدات لأي دولة أوروبية بحجم يوازي أو يقارب حجم المساعدات التي قدّمتها لأوكرانيا. فقد وصلت قيمة هذه المساعدات إلى نحو 50 مليار دولار، أي بفارق 20 مليار دولار عمّا قدّمته مؤسّسات الاتحاد الأوروبي (قدمت 30 ملياراً فقط)، وبفارق أكثر من 40 مليون دولار عما قدمته بريطانيا (قدّمت 8 مليار دولار) أو ألمانيا التي قدمت 5 مليارات دولار فقط. وعلى هذا الأساس تربّعت أوكرانيا على عرش الدول التي تُقدم لها المساعدات من قبل الولايات المتحدة، وبفارق كبير عما يُقدّم لكيان الاحتلال الصهيوني. ومقارنة بسنوات ما قبل الحرب الروسية - الأوكرانية، ولتقديم صورة أوضح حول ضخامة حجم المساعدات، اقتصر الحجم في عام 2020 على 284 مليون دولار فقط، إذ كانت أوكرانيا تحتلّ المرتبة السادسة في ترتيب الدول الممنوحة بعد كل من الكيان الصهيوني (3.3 مليار) وأفغانستان (2.8 مليار) ومصر (1.3 مليار) والعراق (548.1 مليون) ثم الأردن (504 ملايين).

أنجل بوليغان ــ المكسيك

توزّعت المساعدات الأميركية الممنوحة لأوكرانيا في عام 2022 على النحو الآتي: 21% أو ما يعادل 9.9 مليار دولار مساعدات إنسانية، 31% أو 15.1 مليار دولار تمويل لمؤسّسات حكومية وغير حكومية، 48% أو 22.9 مليار دولار تمويل عسكري. لكن بمعزل عما تمثّله هذه المساعدات من أهمية استراتيجية وعسكرية للولايات المتحدة، إلا أن لها أهمية كبيرة ربطاً بـ«اقتصاد الحرب» وأثره على الاقتصاد في الداخل الأميركي. فاقتصاد الحرب، هو أداة هامة وتاريخية لتنشيط الطلب الكلّي في اقتصاد رأسمالي متطوّر كالاقتصاد الأميركي، وهو وسيلة هامة، ليس فقط لتنشيط شركات التصنيع العسكري ومجمعها الصناعي، بل لإعادة توزيع الدخل في أميركا لمصلحة هذه الشركات عبر المشتريات الحكومية بأموال الميزانية العامة، أي بأموال دافعي الضرائب في أميركا. كما أنه أداة هامة لاستمرار إنتاج هذا الفائض الاقتصادي من خلال الدور الذي يلعبه كعامل مضادّ للركود الاقتصادي. كما أنها عامل مهم لاستثمار هذا الفائض مجدداً، وقد يكون هذا الاستثمار الخارجي عاملاً مخففاً من مشكلة التمييز العنصري في الولايات المتحدة أيضاً.

مفاهيم أولية: «ميزة» الركود
لا بدّ من التمييز بين الاستثمار الداخلي (Endogenous Investment) والاستثمار الخارجي (Exogenous Investment) والاستثمار الأجنبي (Foreign Investment). الاستثمار الداخلي هو الاستثمار الذي تتيحه الآلية الداخلية التي من خلالها يعمل النظام الاقتصادي المعيّن بكل «ليبراليته». أي من دون تدخلات حكومية حتى. والـ Endogenous هنا تأخذ معنى «نموّ ذاتي». أما الاستثمار الخارجي، فهو الاستثمار الذي يتم إدخاله من خارج الآلية الداخلية التي من خلالها يعمل النظام الاقتصادي المعين، أي يتم إدخاله لمواجهة خطر الركود الاقتصادي والكساد وميل معدل الربح للهبوط. وللاستثمار الخارجي أشكال متنوعة منها «اقتصاد الحرب» وزيادة النفقات العسكرية، ومنها دولة الرفاه أو دولة الرعاية الاجتماعية وأشكال أخرى... أما الاستثمار المهاجر الذي يتم خارج الحدود الجغرافية للبلد المعين فيسمى «استثماراً أجنبياً»، وهو استثمار مباشر واستثمار غير مباشر.
في الواقع، تتميّز الرأسمالية الاحتكارية عن الرأسمالية التنافسية بعدّة ميزات أبرزها التغيّر في آلية التسعير. فالسعر، في زمن الرأسمالية التنافسية كان يُحدّد في السوق عبر آلية العرض والطلب. أما في زمن الرأسمالية الاحتكارية فإنه يوضع من قبل المحتكر الوحيد، أو من قبل المحتكرين (احتكار القلّة) ضمن آلية معيّنة تشكل اتفاقاً ضمنياً يرضي الجميع أو يخضع له الجميع. وما يميز الرأسمالية التنافسية هو العلاقة الطردية بين أكلاف الإنتاج والأسعار. فكلما انخفضت الأكلاف، سُمح للرأسمالي بخفض الأسعار ليكتسب قوّة تنافسية تسمح له بتوسيع حصّته السوقية. أما في زمن الرأسمالية الاحتكارية فهناك تقليد متعارف عليه بين المحتكرين القلّة، وهو حظر خفض الأسعار حتى وإن انخفضت الأكلاف. وأي خرق لهذا التقليد يعدّ بمثابة شنّ حرب أسعار قد تشعل السوق بما فيها من شركات. هذه الآلية بما تتضمنه من فرض أسعار مرتفعة وأكلاف منخفضة، سمحت للرأسمالية الاحتكارية أن تزيد الفوائض الاقتصادية المتشكّلة لديها بشكل كبير (قانون «ازدياد الفائض» أو «ميل الفائض نحو الارتفاع»)، إلا أنها خلقت أيضاً تناقضاً في الرأسمالية الاحتكارية: توليد فائض متزايد دائماً يترافق مع غياب منافذ الاستثمار (الداخلي) لامتصاص هذه الفوائض، وبالتالي إعاقة حركة النظام للمضي قدماً وبيُسْر. وإذا بقي هذا الفائض الذي يتم إنتاجه من دون منافذ استثمارية داخلية فلا يمكن إعادة إنتاجه مجدداً. لذا، إن الركود يعدّ الحالة العادية لاقتصاد الرأسمالية الاحتكارية. وإذا تُركَت الرأسمالية الاحتكارية لذاتها - أي في حال غياب قوى تعمل في اتجاه مضادّ، وفي غياب أي شكل من أشكال الاستثمار الخارجي - فإن الرأسمالية الاحتكارية ستتردى بعمق متزايد في هاوية الركود المزمن والكساد. هنا تلجأ الرأسمالية الاحتكارية إلى الاستثمار الخارجي كالاستثمار في اقتصادات الحرب عبر زيادة الإنفاق العسكري وشنّ الحروب الخارجية، وفي زيادة الرفاه والمصروفات العامة المدنية. وعبر الاستثمار الأجنبي.

خيارات الإمبريالية: الحرب أم الكساد
إذاً، تتجلى هذه القوى المضادّة بثلاث قوى: (1) النشاط التسويقي. (2) الإنفاق الحكومي ومفهوم دولة الرفاه. (3) الإمبريالية والعسكرة. قد لا يسعنا الحديث عن هذه القوى مجتمعة، ولن يسعنا اختزال القوّة الثالثة التي تهمنا، بل يمكن التطرّق إلى الشق المتعلق بتقديم المساعدات الأميركية لأوكرانيا. ولتبسيط المسألة، يمكن العودة إلى المثال الذي ذكره علي القادري في مقدمة كتابه «تفكيك الاشتراكية العربية» حين يتحدث عن علاقة تربط بين ما أسماه «شريحة الكوكاكولا» وما أسماه «شريحة الحرب»، ويقول: «إذا غلا سعر التنك في الكونغو مثلاً، تدخّلت العسكرة والحرب لتفسخ حقّ شعب الكونغو في التحكّم برزقه كي تخفض سعر مدخولها، وربما إذا زادت الضرائب التي تدعم الإنفاق الحربي وانخفض الطلب على الكوكاكولا، قامت شريحة الكوكاكولا بمعاداة شريحة الحرب». هنا، يشير القادري إلى العلاقة التكاملية بين الشريحتين عندما تقوم «شريحة الحرب» بتسهيل حصول «شريحة الكوكاكولا» على الموارد الأولية. وهنا لا بد لنا من تقديم علاقة تكاملية أخرى توضح كلام القادري أكثر وتصبّ في المثال الأوكراني: إذا دفعت «شريحة الكوكاكولا» الضرائب، ثم سمحت للحكومة أن تقدم مساعدات عسكرية (سلع حربية)، فهذا يعني أن أرباحاً طائلة سوف تكسبها «شريحة الحرب» أولاً، باعتبار أن الدولة هي من سيشتري الأسلحة بأموال الضرائب، وهذا يعني، في الوقت نفسه، أن هناك منفذاً استثمارياً سيُخلق؛ فالأسلحة التي خرجت لا بد من استبدالها، وستكون قيمة الاستبدال بقيمة المساعدات. أي أن هناك عمّالاً (حتى وإن قلّ حجمهم وتأثيرهم نسبياً) سيعملون وينتجون سلعاً حربية وسيأخذون الأجور والمرتبات وسيشترون بها الكوكاكولا التي كانت تعاني من الكساد، بالتالي سيساهمون في تحريك الاقتصاد الراكد. أي أنه لو قامت «شريحة الكوكاكولا» و«شريحة الحرب» بالمقارنة بين الإنفاق العسكري وافتعال الحروب والدخول فيها من خلال المساعدات ومحاولة توسيع الحروب وازدياد الإنفاق العسكري، وبين الركود والكساد، فإنهم سيختارون الخيار الذي يسمح لعجلة الاقتصاد بالاستمرار وللنظام بالمضي قدماً من دون توقف. سيختارون الحرب بالتأكيد باعتبارها أرحم من الركود ومن الكساد!
الرأسمالية الاحتكارية تلجأ إلى الاستثمار الخارجي عبر زيادة الإنفاق العسكري وشنّ الحروب الخارجية


نحن نعلم أن الأهمية النسبية لاستنزاف روسيا وحصارها أو إخضاعها لا يقارن بأهمية الآثار الإيجابية لهذه الحرب على الاقتصاد الأميركي الداخلي. ونحن نعلم أن حجم المساعدات الأميركية في الوقت الحالي، وعلى رغم ضخامته، يحتلّ المرتبة التاسعة من بين الدول المانحة للمساعدات، إذا قورن نسبة للناتج المحلي الإجمالي (تحتلّ إستونيا المرتبة الأولى ولاتفيا المرتبة الثانية). لكن المهم الإشارة إلى الأهمية النسبية لهذه الحرب على الاقتصاد الأميركي الداخلي. يمكن صياغة الأمر على شكل أسئلة: كيف سيكون حجم أثر الحرب على الاقتصاد الأميركي لو توسعت ودخلت فيها أطرافاً جديدة؟ أليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تتوسّع هذه الحرب؟ لم يشهد تاريخ الرأسمالية الاحتكارية (تاريخ الولايات المتحدة) انتعاشاً اقتصادياً كالذي عاشته أثناء الحروب (الحرب العالمية الأولى وخاصة الثانية)، ولم تشهد انخفاضاً في نسب البطالة (بل تتحسن أوضاع أصحاب البشرة السمراء، وتخفّ شكاواهم) إلا في زمن الحروب. هذه هي الرأسمالية الاحتكارية وهكذا يعمل النظام الإمبريالي العدواني العنصري.