في نيسان 2022، توصّل لبنان إلى «اتفاق على مستوى الموظفين» مع صندوق النقد الدولي. تضمّن الاتفاق مجموعة شروط مسبقة يفترض أن ينفّذها الجانب اللبناني من أجل الحصول على برنامج تمويلي بقيمة 3 مليارات دولار. لكنّ هذا الاتفاق لم يقفل النقاش الدائم بشأن العلاقة التي يجب أن تنشأ مع الصندوق؛ ففي لبنان ثمّة من ينظر إلى الصندوق من وجهة سياسية باعتباره إحدى أدوات الهيمنة الأميركية. وفي الخارج ينظرون إليه كذلك أيضاً، إنما لا أحد يغلق الباب نهائياً في التعامل مع الصندوق. الواقعية السياسية تفرض ذلك. وباعتباره أداة للهيمنة، فإن نتائج هذه العلاقة ليست حاسمة ونهائية رغم الصيت السيئ الذي يسبق الصندوق أينما حلّ. ففي سياق هذه الواقعية، قد تفتح العلاقة مع الصندوق باب «خنق» لبنان، إنما قد يتحوّل في لحظة ما إلى باب «تسوية». العلاقات السياسية تحتمل ذلك. وإلى جانب هذه النظرة، ثمّة اتجاهان واقعيان أيضاً: الأول يتعلّق باستعمال هذه القوّة الخارجية من أجل فرض «نمط» ما في الداخل. ويبرّر أصحاب هذه الوجهة بأن العصابة الحاكمة في لبنان ترفض القيام بأي «إصلاحات» وأنه يمكن فرض هذه «الإصلاحات» من خلال الشروط التي يضعها صندوق النقد الدولي. لا بل وصل الأمر بأصحاب هذه الوجهة إلى القول بأن فرض «الإصلاحات» من خلال شروط الصندوق سيكون بمثابة خرق هائل في بنية العصابة الحاكمة. لكنّ ثمّة آخرين أكثر واقعية، يرون أن العلاقة مع الصندوق يجب أن تكون حذرة جداً نظراً إلى تاريخه المتصلّب اجتماعياً، بينما لبنان بحاجة إلى «ختم» الصندوق من أجل تحرير المليارات التي قد تأتي من الخارج وليس من تمويل، إذ لا يمكن لأي دولة مفلسة أن تقترض بالعملة الأجنبية، أي أن تقترض من الخارج، إلا من خلال «ختم» الصندوق، وهذا ما يرتّب عليها أعباء تحقيق ما يطلبه منها في سياق ضمانة الأموال. المشكلة هنا، تكمن في أن الصندوق، ومهما كان السياق الذي يقوم به، هو يسعى إلى إرساء نموذج يغرق لبنان في وحل العودة إليه دائماً لمزيد من التمويل.
اللافت أن نرى اتجاهاً يعتبر أن فرض الصندوق قيوداً، حتى ولو كانت عاطلة اجتماعياً، هو «نعمة كريم} مقارنةً بالحكم الحالي

والاعتقاد بأنه يمكن التفوّق على الصندوق لا يتضمن فرصاً كثيرة، بل يتطلب أن تكون إرادة داخلية صلبة وكبيرة ومصمّمة على تجاوز هذه العلاقة. لكن على الجانب الآخر لهذه المقاربة، يمكن القول إن العصابة الحاكمة في لبنان لا تحبّذ أي تعديلات في نموذج الاقتصاد السياسي الذي بنته منذ نهاية الحرب الأهلية. وهي عصابة لها امتداد دولي أتاح لها الاستغناء دائماً عن أي علاقة مباشرة مع الصندوق. وهذا النموذج انفجر اليوم، إنما فرص إعادة إحيائه أصبحت كبيرة اليوم طالما أن التصحيح يتم على حساب هجرة الكفاءات وانهيار القطاعات وإفقار المقيمين. نحن واقعون بين صندوق أسود، وعصابة حاكمة أسوأ منه.
علي القادري: «إصلاحات» الصندوق تدمير ممنهج
عند الحديث عن صندوق النقد، نحن نتحدث عن وسيلة لتدمير ممنهج للبنية الاجتماعية. فهو يقوم بتوسيع الفوارق الطبقية في المجتمع عبر رفع الضرائب وخفض حجم القطاع العام وغيرها من الإجراءات التقشفية. عملياً، الدين العام في لبنان بأغلبه دين داخلي، لذا، الحاجة إلى تمويل الدولة من أجل الدين غير موجودة، إذ يمكن تسوية أوضاع الدين العام داخلياً.


من ناحية التمويل، الصندوق ليس وسيلة للتمويل، والزعم أن الاتفاق معه سيجلب الاستثمارات إلى البلد ليس دقيقاً. فمن سيأتي ليستثمر في لبنان؟ وما هي هذه الاستثمارات التي ستأتي إلى بلد فيه مشاكل أمنية ولا يملك بنى تحتية صالحة للاستثمار في القطاعات ولا قدرات إنتاجية. أما من ناحية الادّعاء بأن الهدف من الاتفاق مع الصندوق هو فرض «إصلاحات» على الاقتصاد اللبناني، فالحقيقة هي أن «إصلاحات» الصندوق تأتي في سياق أرقام الاقتصاد الكلّي، أي «إصلاح» العجز في الحساب الجاري، والديون وخدمتها. وهذه المعايير، هي معايير وضعها الصندوق أصلاً، أي أنه يأتي لإصلاح المعايير التي خلقها هو. إصلاح الحسابات بطريقة الصندوق يأتي بشكل يخدم أهدافه هو: أي التدمير الممنهج. والغرض هو الكبح السياسي وإعادة إنتاج نموذج يُغرق البلد بشكل أكبر.

ألان بيفاني: حكّام لبنان أقسى بكثير
يجب التعاطي مع صندوق النقد الدولي بكثير من الواقعية بعيداً عن المبالغة في التوقعات ومن دون عدائية أو ما شابه. في الواقع، إن أي تعاطٍ سيكون للبنان مع صندوق النقد الدولي يأتي لأننا دولة مفلسة، ولأن غالبية دول العالم لا تحب التعاطي مع لبنان إلا عبر صندوق النقد. لذا، هي عملية براغماتية كثيراً، وليست إيديولوجية.

أرشيف (مروان طحطح)

هناك مجموعة أسباب للتعامل مع صندوق النقد الدولي، من أبرزها المساعدة المادية التي يقدّمها عبر البرامجة التمويلية. وهذه المساعدة لا تكفينا، لذا علينا الاستماع إلى المانحين الذين يشترطون التعامل مع لبنان عبر ما يقوله صندوق النقد الدولي.
أما بالنسبة إلى المساعدة التقنية التي يقدّمها الصندوق، فهي ليست ملزمة، لكنّ السؤال في لبنان لا يتعلق بإلزامية الاستفادة من هذه المساعدة، بل من المستغرب جداً أن نسمع أصواتاً تعلن رفضها للتعامل مع الصندوق باعتباره جهة إملاءات خارجية. أنا لست من هواة الصندوق، لكنّ هذه الأصوات هي نفسها التي لم تتخذ أي قرار لصالح البلد. هم لم يقدّموا شيئاً فيما البلد يهوي نحو الحضيض. إذا كانوا يريدون القول إننا ضدّ الصندوق، فعليهم أن يضعوا مشروعهم البديل على الطاولة. إذا كانوا ضدّ الصندوق فهم مع من إذاً؟ الموقف من هذه المؤسّسة يستدعي أن يكون لديهم موقف أصلاً. بالطبع يمكن تقييم فشل ونجاحات الصندوق مع العديد من الدول، ويمكن القول إن الصندوق قاسٍ جداً لجهة التعامل مع المسائل الاجتماعية، لكن في لبنان لا يمكن الحديث عن هذا الأمر طالما أن الحكّام أقسى بكثير مما نعرفه عن الصندوق لجهة ما قام به أو ما يمكن أن يقوم به.

شربل نحاس: نحن عالقون بين الصندوق وقوى الحكم
بمعزل عن الإطار السياسي في مجلس إدارته، فإن صندوق النقد الدولي هو مؤسسة تمويلية تتدخل عندما تتعطّل آليات سوق الرساميل، وبالتالي هو بمثابة مصرف يضع شروطاً لتأمين إعادة استرداد الأموال التي يسلّفها. يحلو للبعض في لبنان أن يروّج بأن هذه الشروط هي «إصلاحات»، لكن الواقع أن الإجراءات التي يحدّدها تشبه شروط أي مصرف يريد أن يكون لقرضه ضمانة وأن يطمئن بأن المقترض قادر على سداد الأموال التي اقترضها منه. وبمعزل عن الإيديولوجيا التي يمكن أن توصف بها شروط الصندوق، فإن مسألة «الإصلاح» هي مسؤولية الإدارة الحاكمة في لبنان في مقابل شروط تتضمن، حكماً، تقليل الإنفاق وزيادة الإيرادات. الصندوق يراها بهذه البساطة. أما تسمية «الإصلاحات»، فهي في الأصل عبارة عن خيارات في السياسات لدى الدول التي تتحمّل مسؤوليتها. فالصندوق يريد ضمان استرداد أمواله، بينما حكام لبنان يطلقون كلمة «إصلاح» على كل ما يقومون به مهما كانت بشعة وصغيرة وظرفية.

(هيثم الموسوي)

عملياً، صندوق النقد ليس جمعية خيرية وهو لا يشبه البنك الدولي، لأن تدخله يقع ضمن المدى القصير، وهو تدخّل موضعي باعتباره المقرض الأخير، وهو يتصرّف كمصرف للدول المتعثّرة ويريد ضمان استرداد الأموال. وبالتالي، فإنه بمجرد أن أصبح لبنان في حالة إفلاس وسط عدم القدرة على الاقتراض من الخارج لأن الدائنين يرفضون إقراضنا إلا عبر الصندوق، فإن أي اقتراض من الخارج لا يمكن إلا أن يتم من خلال الصندوق. باختصار «علّقنا حالنا».
الصندوق بحكم طبيعته، يضع شروطاً، لكنّ المسألة في لبنان تتعلق بمن يتكلّم مع الصندوق، إذ إن المسار الفعلي الآن ليس مسار العلاقة مع الصندوق، لأن «العصابة» في لبنان ترفض تلقائياً ما يمكن أن يقيّدها. فمن اللافت أن نرى اتجاهات في لبنان تعتبر أن مجرّد وضع قيود مفروضة من الصندوق، وحتى لو كانت اجتماعياً عاطلة، هو «نعمة كريم» انطلاقاً من الحالة الموجودة... يرى هؤلاء أن الصندوق سيفرض على هذه العصابة أن تنتظم ولو قليلاً وهو أمر يقيّد سلوكها المنحرف بشكل دائم. وهؤلاء يرون أيضاً أن صندوق النقد على مساوئه يمكن استعماله بمنطق مجابهة زعرنات الداخل.

توماس بيكتي: يمكنهم منح لبنان تمويل بداية جديدة... إذا أرادوا


في رأيي، يعاني لبنان بشكل رئيسي من عدم شفافية النظام المالي الدولي الذي سمح لكبار أصحاب الثروات من لبنان ودول أخرى بجني الأموال من خلال النظام المالي والمؤسّسات في البلاد، ثم تهريب أموالهم إلى الخارج وإجبار بقية الناس على دفع الفاتورة. الحلّ هو الشفافية المالية العالمية، وسجلّ الثروة الدولي، وفرض ضرائب تصاعدية على الثروة، بحيث يمكن تمويل بداية جديدة لبلدان مثل لبنان من خلال أموال الأشخاص الذين يستفيدون من النظام المالي العالمي. يملك صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة القدرة على القيام بذلك إذا أرادوا، ولكن من المهم أيضاً أن تكون هناك أصوات في لبنان وفي جميع أنحاء العالم، تدعو لأجل تحقيق العدالة الاقتصادية.


ثمانية شروط مسبقة
ثمانية بنود أساسية هي عبارة عن الشروط المسبقة التي يتحتّم على لبنان تنفيذها قبل أن يعرض «الاتفاق على مستوى الموظفين» الذي توصّل إليه مع صندوق النقد الدولي، على مجلس إدارة الصندوق. هذه الشروط هي أساسية بكل واحدة منها، ولا يعتقد أحد أن الصندوق يمكنه أن يتجاهل أي «حرف» اتفق عليه بكل مضامينه، وهو أمر شهدناه في الأشهر الماضية عندما أقرّ مجلس النواب تعديلات على قانون السرية المصرفية، إلا أن الصندوق أشار في رسالة رسمية تلقى القصر الجمهوري نسخة منها، بأن هذه التعديلات لا تعبّر عن المطلوب فعلاً وهي ليست كافية. والتعديلات على قانون السرية المصرفية هي بند «بسيط» مقارنة مع البنود الأخرى المطلوبة، وأهمها توحيد سعر الصرف لمعاملات الحساب الجاري ودعمه بفرض ضوابط رسمية على رأس المال، فضلاً عن إقرار مجلس الوزراء ومجلس النواب لمجموعة قوانين. المطلوب من كلّ منهما محدّد، بمعنى أنه لا تصبح الخطوة المطلوب أن يقرّها مجلس النواب بمثابة منجزة إذا أقرّها مجلس الوزراء فقط.

1- موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية إعادة هيكلة المصارف، والتي تُقرّ مقدماً بالخسائر الكبيرة التي تكبّدها القطاع وتعالجها، مع حماية صغار المودعين والحدّ من الاستعانة بالموارد العامة.

2- موافقة البرلمان على تشريع طارئ ملائم لتسوية الأوضاع المصرفية على النحو اللازم لتنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة المصارف، والبدء باستعادة صحّة القطاع المالي، وهو ما يُعدّ عاملاً جوهرياً لدعم النمو.

3- الشروع في تقييم أكبر 14 مصرفاً، كلّ على حدة، بمساعدة خارجية من خلال تكليف شركة دولية مرموقة.

4- موافقة البرلمان على تعديل قانون السرية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد والإزالة الفعالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، وإدارة الضرائب، وكذلك الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول.

5- الانتهاء من التدقيق ذي الغرض الخاص المتعلّق بوضع الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان، للبدء في تحسين شفافية هذه المؤسسة الرئيسية.

6- موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية متوسّطة الأجل لإعادة هيكلة المالية العامة والدين تتضمن إعادة الديون إلى مستوى الاستدامة.

7- موافقة البرلمان على موازنة 2022 للبدء في استعادة المساءلة المالية.

8- قيام مصرف لبنان بتوحيد أسعار الصرف لمعاملات الحساب الجاري المصرّح بها مع دعم ذلك بفرض ضوابط رسمية على رأس المال.