يعرض هذا النص وقائع الانهيار في لبنان على مدى السنوات الثلاث الماضية، وكيفية تعاطي المسؤولين معه، والبرنامج البديل للتصدّي له.
وقائع الانهيار
يمكن اختصار الوضع الذي بتنا عليه من خلال أرقام قليلة. هبط الناتج الوطني من 54 مليار دولار عام 2019 إلى 14 مليار دولار عام 2022، وتراجعت القدرة الشرائية للأجور بنسبة 95% حين أصبح سعر الدولار يساوي 30 ألف ليرة، أي أن اللبنانيين باتوا يعيشون بـ5% من قدرتهم المعيشية السابقة. وأشار مراقبو المؤسّسات الدولية إلى أن الأزمة المالية في لبنان ليس لها شبيه في العالم منذ القرن التاسع عشر، أي أنها ليست أزمة مالية عادية، بل هي حالة حصار يتعرّض لها لبنان منذ ثلاث سنوات، وتتشارك في افتعالها وتأمين استمرارها قوى خارجية وداخلية.
بدأت الأزمة حين أصدرت بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان، تقريرها في 11 شباط 2018، قائلة فيه أن لبنان لم يعد يتحمّل استمرار تثبيت سعر الصرف المعتمد. وبدأت، بعد ذلك التاريخ، أزمة ثقة بالعملة الوطنية عبّرت عن نفسها بخروج الودائع من القطاع المصرفي. وتسارع هروب الرساميل هذا في خريف 2018، واتّخذ طابعاً حاداً خلال 2019، وصولاً إلى إعلان المصارف في أيلول 2019 أنها لم تعد تملك سيولة بالدولار، وأنها توقفت من تاريخه عن تمويل استيراد المحروقات وغير المحروقات. أي أن ما حصل في لبنان هو أزمة هروب للرساميل تسبّب بها تقرير صندوق النقد الدولي في شباط 2018.

بالأرقام

32 ضعفاً
هو الارتفاع في سعر صفيحة البنزين 95 أوكتان التي كانت تبلغ بحسب أرقام وزارة الطاقة 22100 ليرة في مطلع كانون الثاني 2019 وصارت 720 ألف ليرة في مطلع تشرين الثاني 2022


4851%
هي نسبة الزيادة التي طرأت على تعرفة مبيع المولدات للكيلواط، إذ كانت 351 ليرة في مطلع كانون الثاني 2019 وارتفعت في مطلع تشرين الثاني 2022 إلى 17381 ليرة


837 الف ليرة
هي قيمة الزيادة التي طرأت على سعر صفيحة المازوت، إذ كانت تبلغ 16300 ليرة في مطلع كانون الثاني 2019 وصارت 853 ألف ليرة في مطلع تشرين الثاني 2022


ما حصل بعد ذلك، هو أن المصارف والنخبة السياسية ممثّلة بمجلس النواب، رفضا الاعتراف بأن هناك أزمة. وتولّى مصرف لبنان بالاحتياطي الذي راكمه على مدى سنوات، تمويل استيراد المحروقات وغيرها لكي تبقى الأمور على حالها بالنسبة إلى المستهلكين. كما أعلن حاكم مصرف لبنان في 11 تشرين الثاني 2019 أنه لن تكون هناك إفلاسات في القطاع المصرفي. أي أن إنكار وجود أزمة - وجود حالة إفلاس للمصارف يعكسها توقفها عن الدفع أو امتناعها عن الاستجابة لطلبات المودعين الذين يريدون سحب ودائعهم - بالإضافة إلى شراء الوقت، مثّلا مقاربة مصرف لبنان والمصارف والنخبة السياسية لما يحصل في لبنان.
المبادرة الثانية التي أطلقها حاكم المصرف المركزي بعد أشهر من توقف المصارف عن الدفع، هي الشروع في استبدال الودائع بالدولار التي يريد المودعون سحبها، بما يوازيها بالليرة على سعر صرف يساوي 3900 ليرة لكل دولار بدلاً من 1500 ليرة، وذلك بدءاً من نيسان 2020 (التعميم 151). أي قبل صدور برنامج الإصلاح الذي أعدّته حكومة الرئيس دياب وصدر في آخر ذلك الشهر وتضمن تخلّي الحكومة عن سعر الصرف المثبّت على 1500 ليرة، واستبداله بسعر صرف جديد هو 3500 ليرة لكل دولار. وبالتالي فإن حاكم المصرف المركزي أطلق مسار التخلّص من الودائع بالدولار التي لم تعد المصارف قادرة على تسديدها بالعملة الأصلية، من خلال تحويلها إلى ليرات وتسديدها بهذه الطريقة. واقتضى ذلك أن يُصار إلى طبع عملة نقدية بالليرة نقلت حجم هذه الكتلة من 5561 مليار ليرة في مطلع 2019 إلى 69797 مليار ليرة في منتصف تشرين الأول 2022، كما استطاع المودعون أن يعوّضوا جزءاً من خسارتهم لودائعهم بالدولار، من خلال شراء عقارات من المطوّرين الذين استدانوا من المصارف، بقيمة بلغت نحو 15 مليار دولار عام 2020.
يمكن اختصاراً، القول أنه كانت هناك أزمة هروب للرساميل مفتعلة، أدّت إلى توقف المصارف عن الدفع أو تسديد الودائع، أي إفلاسها، ورفض مصرف لبنان والنخبة السياسية الإقرار بهذا الإفلاس. وقد أشرع مصرف لبنان سيرورة إنقاذ لهذه المصارف بتحويل الودائع بالدولار إلى ليرات تُسدّد للمودعين بديلاً من دولاراتهم.
وشهد شهر حزيران 2021 انتقال الأزمة في لبنان إلى طور جديد أشد وطأة بما لا يقاس على اللبنانيين. يمكن اختصار ما جرى حتى ذلك التاريخ بأن مصرف لبنان الذي رفض الإقرار بمبدأ إفلاس المصارف، أشرع سيرورة إنقاذ لها، واستخدم احتياطيه بالدولار لتمويل الاستيراد للمحروقات والسلع الغذائية لتسهيل الأمور على اللبنانيين. وكان حاكم المركزي لا ينفك يحذّر الحكومة والنخبة السياسية من أنه سيتوقف عن دعم أسعار المحروقات حين ينفد الاحتياطي الذي يعتمد عليه.
وهو ما حصل في أواخر حزيران 2021. وخلق ذلك ندرة في المحروقات الموفرة للمستهلكين. وقد استمرت الطوابير على المحطات حتى شهر آب. ولم تتوقف إلا بعدما ارتفع سعر البنزين ثماني مرات وسعر المازوت تسع مرات. وفي آخر شهر آب كانت أسعار المواد الغذائية قد ارتفعت 18 ضعفاً مقارنة بعام 2019. وارتفعت أسعار الكهرباء التي توفرها الموتورات الخاصة ثمانية أضعاف. كل ذلك في وقت لم تتحرّك فيه الأجور وبقيت على حالها.
وفي 10 أيلول 2021 شكّل الرئيس ميقاتي حكومة جديدة. وذلك بعد انقضاء سنة كاملة من دون حكومة لتمنّع الرئيس الحريري عن تشكيلها طيلة ذلك العام. وتسارع تردّي أوضاع اللبنانيين في ظل الحكومة الجديدة. وكانت الأشهر بين صيف 2021 وأيار 2022، موعد الانتخابات النيابية، استمراراً لعملية تجويع اللبنانيين.
وعلى امتداد حقبة الأزمة كان انهيار سعر صرف الليرة هو القاطرة التي تجرّ وراءها بقية المتغيرات، خصوصاً الأسعار. وقد بلغ سعر الدولار 2000 ليرة في نهاية 2019، بعد أربعة أشهر من اندلاع الأزمة. ثم ارتفع إلى 4500 ليرة للدولار الواحد في حزيران 2020، وإلى 8500 ليرة في تموز من ذلك العام. وقد حافظ على هذا المستوى تقريباً حتى الفصل الأول من 2021. وبات الدولار الواحد يساوي 12250 ليرة في آذار 2021، ثم ارتفع إلى 17000 ليرة في حزيران وإلى 23300 ليرة في تموز 2021. وانخفض مجدداً في أيلول إلى 14000 ليرة ليعاود ارتفاعه خلال الأشهر اللاحقة. وقد بلغ 34000 ليرة في كانون الثاني 2022. وأعطى ذلك مبرّراً لتفعيل منصة «صيرفة» من قبل المركزي للحد من الارتفاعات الشديدة لسعر الدولار.
ما هي أسباب ارتفاع سعر الدولار؟ ثابر حاكم المركزي على الطلب إلى الصرافين اعتماد سعر 2000 ليرة للدولار الواحد، حتى صدور برنامج الإصلاح لحكومة الرئيس دياب في آخر نيسان 2020. ورأى المتابعون أن مشترياته من الدولار من السوق الحرّة هي التي رفعت السعر إلى 8500 ليرة في تموز 2020. واعتُبرت المصارف مسؤولة عن رفع سعره إلى 12250 ليرة في آذار 2021. وقد لجأت إلى السوق لتوفير ما تحتاجه من دولارات تطبيقاً لتعميم مصرف لبنان الرقم (154). ثم اعتبرت مشتريات المصرف المركزي من السوق مسؤولة عن ارتفاع سعر الدولار إلى 23300 ليرة في تموز 2021. ورأى المراقبون أن الانخفاض الذي طرأ على هذا السعر، أي 14000 ليرة، لم يكن ممكناً الحفاظ عليه بعد تخلّي مصرف لبنان عن توفير دولارات للاستيراد، وتولّي المستوردين الحصول عليها من السوق.
أي أن الأطراف الثلاثة المسؤولة عن ارتفاع سعر الدولار هي المصارف ومصرف لبنان ومستوردو المحروقات. وكان ثمة دور مهم لمستخدمي التطبيقات على الهواتف في رفع أسعار الدولار. وقد اتهم حاكم المركزي هؤلاء بأنهم وراء ارتفاع هذا السعر في أواخر 2021. وأشار مراقبون آخرون أن التلاعب بسعر الدولار أي رفعه، كان يجري في سفارات خارج لبنان.
وقبل الانتخابات النيابية في أيار 2022، كانت أسعار المواد الغذائية قد ارتفعت مقارنة بـ2019، 29 ضعفاً بعدما كان ارتفاعها 18 ضعفاً في أيلول 2021. وارتفعت أسعار البنزين 16 ضعفاً، وأسعار المازوت 22 ضعفاً وأسعار كهرباء المولدات 15 ضعفاً.
وطُرح موضوع تعزيز النقل العام منذ أيام حكومة الرئيس دياب لكي يتاح للبنانيين الانتقال إلى عملهم بكلفة أقل. وقيل أن ثمة بدل نقل سوف يوفّر لهم. وقيل أن توفير الغاز والكهرباء من مصر والأردن سيرفع حصة الدولة في توفير الكهرباء بكلفة أقل على المواطنين. ولم يحصل شيء من كل هذا. وقد توقف موظفو الإدارات العامة والقطاع العام عن الذهاب إلى عملهم. وجرى الاتفاق معهم على الحضور يوماً واحداً في الأسبوع لتسيير أمور الناس. وأقفلت الجامعة اللبنانية أبوابها. وتعطّل عمل القضاء بسبب عدم توفّر الأوراق والقرطاسية، قبل أن يذهب القضاة إلى إضراب طويل عن العمل.
وكانت أجور القطاع العام في مشروع موازنة 2022 تساوي ربع المبالغ المرصدة في الموازنة لدفع الفوائد على الدين العام للمصارف. وكل ما حصل عليه موظفو القطاع العام هو «مساعدة اجتماعية» بدءاً من أيلول 2021 كانت تساوي في البداية نصف راتب وأصبحت بعد ذلك توازي راتباً. وأقرّ مجلس النواب في مناسبة التصويت على موازنة 2022 في 26 أيلول مبدأ مضاعفة رواتب القطاع العام ثلاث مرات مع إلغاء «المساعدة الاجتماعية». وقبل أن يحصل الموظفون على تلك الزيادة، كان سعر الدولار قد بلغ 40 ألف ليرة خلال شهر تشرين الأول، وألغى مسبقاً مفعول تلك الزيادة على القدرة الشرائية.
وهناك جيل بكامله من اللبنانيين الشباب بات في الخارج أو يتحضّر لمغادرة بلاده نهائياً. وكل ما تمّت مراكمته من ازدياد ديموغرافي بعد الحرب يندثر ويتوارى بالهجرة الكثيفة. ويستمر السياسيون والمسؤولون بتعنيف شعب هو في طريقه ليصبح أثراً بعد عين.

تعاطي المسؤولين مع الانهيار
بقي مجلس النواب صامتاً على امتداد حقبة الانهيار. لم يطرح نائب واحد فيه مقاربة بديلة لكيفية التصدي للانهيار. اعتبر نفسه غير معني بالكارثة الاقتصادية والاجتماعية القائمة. ولم يتخذ مرّة واحدة موقفاً لمصلحة جمهور اللبنانيين الذين يتعرّضون للتجويع. نأى بنفسه عن الاهتمام بكيفية التصدي للأزمة الطاحنة كما لو أنها تحصل في بلد آخر. اختصر موقفه في صيف 2021 الرافض لإصدار قانون يبيح استخدام احتياطي المصرف المركزي من الدولارات ومن الذهب لمتابعة الدعم لأسعار المحروقات، طريقة تعاطيه مع الأزمة.
وقد اعتبرت حكومة الرئيس دياب أنها معنية حصراً بالإشراف على مشروع الإصلاح الذي أُعدّ لها. وأهم ما فيه تحميل المصارف مسؤولية إدارتها للقطاع. وحين تصدّت المصارف والنخبة السياسية لهذا المشروع، وتم إبلاغ ذلك للرئيس دياب في اجتماع «المجلس الأعلى للدفاع» في حزيران 2020، لم يكن قادراً على اقتراح أي بديل والسير فيه.
ومضى عام كامل بعد تكليف الرئيس الحريري تشكيل حكومة جديدة من دون أن يحصل هذا التشكيل. ومارست حكومة الرئيس دياب تصريف الأعمال مع إنجازات على مدى فترة تولّيها الحكم تساوي صفراً.
ولم تتمكّن حكومة الرئيس ميقاتي من تحقيق أي إنجاز في أي من الملفات التي تصدرت اهتماماتها. فلم تتحسّن التغذية بالكهرباء من مؤسسة كهرباء لبنان، بل تراجعت التغذية إلى ساعة واحدة في اليوم. وبقي اللبنانيون يسدّدون مبالغ للمولدات الخاصة كانت ترتفع كل شهر على وقع ارتفاع سعر الدولار. وقد أضرب متعاقدو الجامعة اللبنانية سنة كاملة للضغط من أجل تفريغهم. ووجد الرئيس ميقاتي أنه بغنى عن مساهمة 1500 أستاذ حاصل على دكتوراه من الجامعات الغربية، دافعاً إياهم دفعاً إلى مغادرة لبنان نهائياً.
ومع انتقال حكومة الرئيس ميقاتي إلى مرحلة تصريف الأعمال بعد انتخابات أيار 2022، وصل رئيسها إلى قناعة بأن لا حاجة لعقد مجالس وزارية. واعتمد مقاربة جديدة هي التواصل مع كل وزير على حدة في القضايا التي تعني وزارته. وقد حصر «اتفاق الطائف» السلطة برئيس مجلس الوزراء الذي يكفي أن يقرّر الاستقالة ليذهب كل الوزراء إلى بيوتهم. ولم يقدّم وزير واحد مشروعاً أو مقاربة من شأنها إضفاء مصداقية على حضوره وعمله. ولم يعمل أي منهم على التصدي لقلّة الاعتبار التي يُواجه بها. ولا يمكن فصل حالة الشلل الكامل للسلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء عن حالة «الفراغ الإداري» الشامل الذي بات يطبع الإدارة العامة اللبنانية منذ ما قبل اندلاع الأزمة. لم يعد فيها أناس راكموا خبرة طويلة في مجالهم يمكن الاتكال عليها.
وقد بدت رئاسة الجمهورية معنيّة حصراً بالملفات التي توفّر منافع لتيار الرئيس السياسي. وكانت جلسات مجلس الوزراء تُعقد أيام حكومة الرئيس دياب فقط لإمرار التعيينات الإدارية. ولم تتخذ رئاسة الجمهورية مبادرة واحدة يُشتم منها تعاطف مع اللبنانيين في محنتهم الفظيعة. وبدت الملفات التي يُدفع بها إلى الأمام كالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان معنيّة بتصفية حسابات خاصة وشخصية. وقد خرجت كيفية التصدي للأزمة الطاحنة من اهتمامات رئاسة الجمهورية ومن أدبيات تياره السياسي. وهي أكّدت أن هذا الفصيل السياسي لم يكن لديه في أي وقت ما يجعله قادراً على اقتراح أي إصلاح، وأنه لا يمكن التعويل عليه في أي ظرف لحماية شعب لبنان.

البرنامج البديل
السبب الرئيسي في هذه الأزمة التي تطحن شعباً بكامله وتدمّر مجتمعه ودولته، هو ارتفاع سعر الدولار. يتعاطى الأفرقاء الداخليون كلهم معه وكأنه قدر لا فكاك منه. يخضع هذا السعر لآلية العرض والطلب في سوق بيروت. ويعرف الكلّ أن أغلب ارتفاعات الدولار هي مفتعلة ويلجأ إليها مفتعلوها كوسيلة لتأزيم الأوضاع. يلعب مصرف لبنان دوراً رئيسياً ومباشراً في التحكّم بهذا السعر. وحين تتدخّل التطبيقات الخارجية على الهواتف لرفع هذا السعر، يقف متفرجاً ولا يحرّك ساكناً.
ولدى مصرف لبنان والمصارف مصلحة مباشرة في ارتفاع سعر الدولار. فكلما ارتفع هذا السعر انخفضت ديونهما المقوّمة بالليرة عند تحويلها إلى دولار. وإذا كان ارتفاع سعر الدولار قد خفّض القدرة الشرائية للأجور بنسبة 95%، فإن الانخفاض طاول أيضاً قيمة ديون والتزامات المصارف ومصرف لبنان.
ويقف اللبنانيون مشلولين أمام آلية السوق هذه في تسعير الدولار. يعتقدون أنها الطريقة الوحيدة لتحديد هذا السعر وأن لا بديل منها. وقد رسّخت هذه القناعة لديهم النيو-ليبرالية المسيطرة التي تدفع إلى الركون إلى قوى السوق في كل شيء. ولم يتطوّع طرف سياسي واحد أو نائب واحد في البرلمان للقول بأن هذه الطريقة في تسعير الدولار هي طريقة مجرمة وأنه ينبغي التفتيش عن آلية أخرى لتسعيره.
وعلى مدى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع الثمانينيات، كان ثبات سعر صرف العملة هو القاعدة في كل بلدان العالم الثالث. وسوف يُشرع تحرير حركة الرساميل بعد ذلك التاريخ، الذي فرضته النيو-ليبرالية في أنحاء العالم، أزمات فادحة في مختلف دول العالم النامي. وكان هروب الرساميل وانهيار سعر صرف العملة هما المتسبّبين بتلك الأزمات. ويقتضي الخروج من هذه الحالة البائسة القطيعة الكاملة مع ممارسات النخبة النيو-ليبرالية اللبنانية وإجرامها بحق لبنان.
ويقتضي ذلك أولاً، تغييراً للمسؤولين عن هذه الكارثة وطريقة إدارتها من قبلهم واستبعاداً لهم من أية مسؤولية. ويقتضي ثانياً، إقامة مؤسسات حكومية جديدة تتولى الشأن الاقتصادي. وهي التي لن يكون ممكناً من دونها إجراء تغيير لما هو قائم.

هناك جيل بكامله من اللبنانيين الشباب بات في الخارج أو يتحضّر لمغادرة بلاده نهائياً


وقد احتكر حاكم المركزي على مدى سنوات الأزمة مسؤولية إدارتها. وذلك وسط شلل اللبنانيين وذهولهم وامتناع نخبهم عن التعبير عن أي موقف. ويقتضي التصدي لهذه الأزمة نقل المسؤولية إلى أيدي جهاز حكومي جديد مكوّن من أناس جديرين يتم تنسيبهم بواسطة مباريات وطنية، هو «جهاز الرقابة على القطع». وتكون مهمة هذا الجهاز تثبيت سعر صرف الليرة واعتماد أولويات في ميدان الاستيراد أي تقنينه، بما يجعل قيمته مطابقة لما توفّره التحويلات من الخارج من عملات صعبة. أي أن إخراج سعر الصرف من أيدي اللاعبين الداخليين والخارجيين هو المدخل لتثبيته. وسوف ينجح هذا التثبيت إذا تمكّن «جهاز الرقابة على القطع» في المطابقة بين حجم الاستيراد وحجم تحويلات اللبنانيين في الخارج إلى بلادهم. وقد أثبتت السنتان الأخيرتان أن حجم الاستيراد قد انخفض وأصبح قريباً من مستوى هذه التحويلات.
وقد منع كل الهراء الذي رافق تجربة لبنان منذ 1948 حول «الاقتصاد الحر» و«المبادرة الحرّة» من أن تكون لدى الدولة أجهزة تمارس الرقابة على حركة الاستيراد وعلى حركة الرساميل، وبحيث بقي القطاع الخاص يمارس حرية مطلقة على هذا الصعيد. وذلك وسط جهل مطبق من قبل الدولة وأجهزتها بما يحصل. ولو توفّر للبنان بعد 2011، أي منذ أن أصبح عجز ميزان المدفوعات يَظهَر تكراراً، «جهاز رقابة على القطع»، لأمكن مذاك ضبط الاستيراد ومنع الانهيار الكارثي الذي وصلنا إليه.
ولا ينبغي أن يقتصر دور الدولة على تثبيت سعر صرف الليرة، بل ينبغي أن يتخذ حضورها فعالية جديدة وأكبر من السابق بما لا يقاس، من خلال اعتماد موازنة حكومية للاستثمار ووضعها موضع التنفيذ فوراً. وينبغي أن يكون لهذه الموازنة الاستثمارية هدفان محددان: البنى التحتية وإطلاق صناعات جديدة ذات أهداف تصديرية. وأهم ما في محور البنى التحتية البدء فوراً بتنفيذ مشاريع يراها الكلّ وتثبت أن الدولة قادرة على الفعل وعلى الإنجاز.

تجربة حكومة الرئيس ميقاتي تطغى عليها شخصنة القرار، أي حصره برئيس المجلس، والتزام ثابت لدى هذا الأخير بالنزول عند رغبة السفارات


وقد اقترحنا منذ بدء الأزمة أن تَشرع الحكومة الجديدة، أي حكومة الرئيس دياب، فوراً بتنفيذ توسيع وصلة الأتوستراد بين صربا وطبرجا كدليل على قدرتها على المبادرة. واقترحنا أن يصاحب ذلك فوراً إنشاء ثلاث مناطق أو «محميّات» صناعية في نطاق بيروت الكبرى، تُجهّز لاستقبال المؤسّسات الصناعية التي ستتولى الدولة دعمها للبدء بإنتاج سلع تكنولوجية جديدة. وذلك على قاعدة «التعلّم التكنولوجي»، أي تعلّم تفكيك وإعادة تركيب الماكينات المشتراة من السوق الدولية.
ولو اعتمدت حكومة الرئيس دياب هذه المقاربة، أي وضعت جانباً همّ التصدي للأزمة المالية، وانطلقت في تنفيذ البرنامج الاستثماري المشار إليه أعلاه، لكانت نجحت في إخراج لبنان من كبوته القاتلة. ولعل سوء طالع لبنان أن الشخص الذي تولى رئاسة الوزراء فيه لم يكن يقرأ صحيفة أو يهتم بالجدال الداخلي حول الشأن العام بالحد الأدنى، ليتسنّى له الاستفادة من هذا النقاش وتوظيفه في مشروعه.
أما تجربة حكومة الرئيس ميقاتي فتطغى عليها شخصنة القرار، أي حصره برئيس المجلس، والتزام ثابت لدى هذا الأخير بالنزول عند رغبة السفارات. وقد استطاع الرئيس ميقاتي أن ينتزع القرار من مؤسّسة مجلس الوزراء ويجعل النقاش مع كلٍ من وزرائه تقنياً بحتاً. أي أنه انتزع من هؤلاء قدرتهم على التعبير عن موقف مختلف في قضايا الشأن العام، على افتراض أنه يمكن أن يكون لديهم أو لدى أحدهم موقف مختلف. وليست هذه الرغبة في إرضاء الخارج مجزية للبنانيين بأي شكل من الأشكال. وهي تجبرهم على تكتيف أيديهم والانتظار. وهي تمنعهم من شحذ عقولهم وهممهم لبلورة حلول يقومون بتنفيذها بأنفسهم، وقد باتوا على آخر رمق.

البرنامج البديل يتضمن استعادة الدعم على المحروقات، إنشاء «جهاز رقابة على القطع» لتقنين الاستيراد وتثبيت سعر صرف الليرة، وإشراع برنامج حكومي للاستثمار يتناول البنى التحتية وإنتاج سلع تكنولوجية


والبرنامج البديل الوحيد الذي يستحق الاحترام هو الذي ينتصر لشعب لبنان المقهور أولاً، ويجعل من حماية وجوده وبقائه أولوية وحيدة لديه، ويوظّف كل الوسائل لأجل هذه الغاية. ولا يعود مستهجناً في هذه الحالة، أن تخصّص الدولة دولارات المصرف المركزي وذَهَبَه، لتأمين استمرار دعم المحروقات. ويمكن بالتالي اختصار البرنامج البديل إلى ثلاث نقاط: استعادة الدعم على المحروقات، وإنشاء «جهاز رقابة على القطع» يناط به تقنين الاستيراد بهدف تثبيت سعر صرف الليرة، وإشراع برنامج حكومي للاستثمار يتناول البنى التحتية وإنتاج سلع تكنولوجية.
تطبيق هذا البرنامج يقتضي خلق إدارة عامة جديدة. ولم يعد ممكناً الذهاب إلى أي مكان مع إدارة عامة بلغ الشغور في مواقع اتخاذ القرار فيها هذا المبلغ. ولم يعد ممكناً تأجيل بناء مؤسسات اتخاذ القرار الاقتصادي، وخصوصاً تلك التي لم توجد في أي وقت سابق في تجربة لبنان المعاصرة. وقد أصبح وجودها مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى لبنان.
وهل يوافق الخارج على وصول رئيس حكومة وحكومة ينفّذان هكذا برنامج؟ وهل يوافق السياسيون على أن تُنتزع من أيديهم التعيينات التي تتيح للإدارة العامة أن تعمل باستقلالية عنهم؟ وإذا وجد اللبنانيون أن البرنامج المعروض أعلاه وما يقتضيه السير فيه من بناء لمؤسّسات عامة جديدة ومستقلّة، يحقّق أهدافهم، وإذا تبيّن أن النخبة السياسية ستتصدّى لهذا البرنامج وللإدارة المستقلة التي ستتولى تنفيذه، فسيؤكد السياسيون أنهم عدو اللبنانيين الأول. وعلى اللبنانيين بالتالي، أن يذهبوا إلى «ثورة سياسيّة» أصبح لها الآن برنامج اقتصادي وسياسي. وهو سياسي لأنه يتطلّب أن يكون بناء المؤسسات الجديدة بمعزل عن إرادة السياسيين وضد إرادتهم. واللبنانيون كانوا في السابق قد ذهبوا إلى هذه «الثورة» من دون برنامج.

* أستاذ جامعي