هذه الحصيلة تحتاج إلى معطيات تفصيلية تتيح دراسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي من خلال مستويات الأعمار، أماكن السكن، القطاعات التي يعملون فيها، شرائح الدخل، عدد المضمونين على العاتق، أسباب ترك العمل (صرف من العمل، الهجرة، إغلاق المؤسسات) وسواها، ما يسمح بقراءة مفاعيل الانهيار على الأسر والمؤسّسات. لكن الحصيلة النهائية التي يمكن قراءتها منذ 2019 لغاية اليوم تفتح الباب أمام قراءة تطوّرات الأزمة. فحصيلة سنوات 2019 و2020 و2021 (ثمانية أشهر)، تشير إلى أن الفائض السلبي في حركتَي الترك والاستخدام بلغ نحو 58 ألف أجير ترك العمل في الفترة المذكورة. نسبة هؤلاء من مجمل الأجراء المسجّلين لدى الضمان في نهاية 2018 تبلغ 11%. لذا، فإنّ الأجراء الذين خرجوا من تغطية الضمان الاجتماعي انتقلوا إلى البطالة أو إلى الهجرة أو حتى إلى العمل غير النظامي. بكل الأحوال، هذه الفئة إما هي فئة نوعية ذات كفاءة عالية وجدت فرصة للهروب إلى الخارج وقامت بترك عملها طوعاً وتصفية تعويض نهاية خدمتها، أو أنها فئة من العمّال ذوي المهارات المتدنية لم تعُد مؤسساتهم بحاجة إليهم لأنها قلّصت حجم أعمالها وتعمل على تقليص عدد العمّال، أو لأنها أغلقت نهائياً، أو لأنها استبدلتهم بعمّال أصغر سناً وبرواتب أقلّ.
الانهيار يفاقم السمات السلبية في بنية العمل في لبنان. فمن هذه السمات أن غالبية الوظائف التي كان ينتجها «النموذج» كانت وظائف هامشية أو وظائف ذات إنتاجية متدنية، أي أنها تترك. في قطاعات التجارة والتجزئة وأنشطة الإقامة والخدمات والأنشطة العقارية. ما لم يتغيّر خلال السنوات الماضية أن هذه القطاعات كانت حصّتها نحو ثلث العاملين بأجر، مقابل نحو الثلثين للعاملين لحسابهم الخاص. هذه المشكلة ستتفاقم أكثر، فالاقتصاد يتقلّص ومعه تتقلّص قدرته على خلق الوظائف. في السابق كانت هذه القدرة تستوعب واحداً من كل ستة وافدين جدد إلى سوق العمل. وعلى الضفّة المقابلة، فإن العاملين بأجر أو أولئك الذين يعملون لحسابهم الخاص، من ذوي الكفاءات يهاجرون. وبالتالي ستزداد حصّة العمالة غير الماهرة من مجمل القوى العاملة. وإذا صار هناك أيّ اتفاق مع صندوق النقد الدولي ينصّ على إعادة هيكلة القطاع العام، فإن التشوّه في بنية العمل سيصبح أكبر بكثير.
في 2018 - 2019، قدّرت إدارة الإحصاء المركزي أن عدد القوى العاملة في لبنان تبلغ 1.59 مليون شخص في لبنان منهم 54% يعملون بشكل نظامي والباقي بشكل غير نظامي. الفئة النظامية مقدّرة بنحو 716 ألفاً. فإذا كان الضمان يعترف بأن لديه 524 ألف أجير في القطاع الخاص مصرّح عنهم للضمان الاجتماعي، فهذا يعني أن نحو 192 ألفاً يعملون في القوى الأمنية والعسكرية والإدارة العامة ومؤسّسات القطاع العام. هذه هي الفئات التي لديها تأمين صحي، وهو أمر مهم جداً في ظل ارتفاع معدلات الصرف من العمل والازياد المطّرد في البطالة والهجرة. التأمين الصحي أو التغطية الصحية ستصبح حاجة ماسة للمجتمع من أجل كبح عملية تفكيكه وموت أفراده على الطرقات. الهجرة ستخلف وراءها الفئات الأكثر تقدماً في السن والأكثر عرضة للأمراض. مجتمع الكارتيلات في لبنان و«أحزاب المصارف» سيترك هذه الفئات للموت.
ما يحصل في الضمان من تراجع في عدد المضمونين (حصيلة الترك والاستخدام) لا يظهر كل الحقيقة، إنما يسلط الضوء على بعض منها. فمنذ عقود، هذه المرّة الأولى التي تنعكس فيها إحصاءات الترك والاستخدام من فائض إلى تناقص في عدد الأجراء، بالإضافة إلى تهافت عدد كبير منهم للحصول على التغطية الصحية «المتواضعة» التي يقدّمها الضمان بالأسعار الحالية. هذا التهافت يظهر بوضوح في زيادة عدد المنتسبين إلى الضمان الاختياري بنسبة 93% من 2018 لغاية نهاية آب 2021، وزيادة بنسبة 224% في الانتساب إلى ضمان المتقاعدين في الفترة نفسها.