جاءت جائحة «كورونا» لتعزّز نموّ التجارة الإلكترونية. فرغم الانكماش الحادّ في القطاعات الاقتصادية، إلّا أن مبيعات التجزئة عن بُعد تزداد أكثر فأكثر. الدوافع واضحة وهي متّصلة بما فرضه فيروس «كورونا» من قيود على أنماط السلوك الاستهلاكي والاجتماعي. فالتباعد بات سمة خاصّة بالفيروس تحفّز الاستهلاك المدعوم بتريليونات إضافية ضخّتها المصارف المركزية حول العالم. لكن هذا النموّ الكبير الذي شهدته وسائط البيع عن بُعد، تثير سؤالاً مركزياً يتعلّق بمدى استدامة هذه التحوّلات في أنماط الاستهلاك. فهل هذا النموّ يعدّ حالة عابرة، أم أنه سيؤسّس لقواعد سوقية مختلفة؟في نيسان 2020 ازدادت مبيعات تجارة التجزئة خارج المتاجر بنسبة 14.8% في أميركا مقارنة مع الشهر نفسه من عام 2019. هذا التطوّر لم يكن حكراً على الولايات المتحدة وحدها بحسب تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي بعنوان «التجارة الإلكترونية في زمن الكورونا»، بل تبيّن أن المبيعات من خلال البريد أو الإنترنت في أوروبا زادت بنسبة 30% في وقت كانت مبيعات التجزئة تسجّل انكماشاً بنسبة 17.9%. كذلك الأمر تطوّرت مبيعات التجزئة عن بُعد في العديد من دول العالم، وشهدت التجارة الإلكترونية تسارعاً كبيراً في الاستحواذ على حصّص سوقية أكبر من مبيعات التجزئة. ففي أميركا بلغت حصّة التجارة الإلكترونية من مجمل مبيعات التجزئة 16.1% في الربع الثاني من 2020 مقارنة مع 11.6% في الربع الأول من 2020، و9.6% في الربع الأول من 2018. في بريطانيا، شهدت هذه التجارة تطوّراً ملحوظاً من 17.3% في الربع الأول من 2018 إلى 20.3% في الربع الأول من 2020، وفي الربع الثاني من 2020 ارتفعت إلى 31.3%. وفي الصين ارتفعت حصة التجارة الإلكترونية 24.6% في آب 2020 مقارنة مع 19.4% في آب 2019 و17.3% في آب 2018.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


هذا التطوّر مرتبطٌ بسوق ضخمة جداً. حجم التجارة الإلكترونية عالمياً يفوق 29 تريليون دولار بحسب أحدث تقرير صادر عن «مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية» (UNCTAD). يشير التقرير إلى أن حجم المبيعات ازداد في 2019 بنسبة 11.5% عن سنة 2018، ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 33%. أميركا تأتي في المركز الأول في قيمة مبيعات التجارة الإلكترونية. حجم عمليات الشراء عبر القنوات الإلكترونية بلغ 8.9 تريليونات دولار، أي 46% من الناتج المحلي الأميركي. في المقابل، تستحوذ كوريا الجنوبية على المركز الأول لجهة نسبة هذه التجارة من الناتج المحلي الإجمالي والمقدرة بنحو 84%، وتليها اليابان بـ61%.
حجم هذه السوق واسع جداً. عدد المشترين أو المتسوّقين بواسطة الإنترنت في أكبر 20 اقتصاداً في العالم بلغ 1.19 مليار شخص في 2019. الصين وحدها تستحوذ على المركز الأول بنحو 600 مليون متسوّق، وتليها أميركا بنحو 189 مليوناً.
إذاً، التجارة الإلكترونية كانت في حالة نموّ حتى قبل جائحة «كورونا». فعلى سبيل المثال، هناك شركات مثل أمازون وعلي بابا وغيرهما من الشركات العاملة في هذا المجال، كانت قد شقّت طريقها لتصبح جزءاً أساسياً من يوميات المستهلكين حول العالم. لكن في مطلع هذه السنة، تلقّت هذه الشركات دفعة كبيرة من الوباء. فالحاجة إلى تسهيل التباعد الاجتماعي خلقت حافزاً قويّاً لدى الشركات الراغبة في الانتقال نحو قنوات بيع أقل كلفة وأكثر استهدافاً للمستهلكين. تأقلم الطرفان بسرعة مع الجائحة وبدأت النتائج تظهر بوتيرة متواصلة منذ 10 أشهر.
وانطلاقاً من هذه النقطة، فإنّ منظمة التعاون الاقتصادي، تشير إلى أثر بعيد المدى قد يظهر على نمط الاستهلاك. فالترجيح بأن يتحوّل جزء كبير من الطلب نحو النظام الرقمي مؤقتاً أمر ممكن، لكن إلى أيّ مدى وضمن أيّ سقف يمكن أن يصبح هذا التحوّل دائماً؟ فعلى سبيل المثال، في عام 2002 - 2003 ظهرت جائحة «سارس» التي كان لها أثر كبير على التحوّل الرقمي لتجارة التجزئة في الصين. فبمثابة الاستجابة لهذه الجائحة، وبالتحديد في 2004، تحوّل موقع JD.com من المبيعات التقليدية إلى المبيعات عبر الإنترنت، وهو أصبح اليوم أحد أكبر بائعي التجزئة عبر الإنترنت في العالم. الأزمة نفسها، وفّرت قاعدة استهلاكية واسعة لفرع شركة علي بابا «Taobab» الذي أُطلق في عام 2003.
الانتقال من طرق التجارة التقليدية إلى البيع بواسطة الإنترنت يتطلب استثمارات إضافية ينتج منها أدوات وخبرات


ثمة العديد من الأمثلة عن هذه التحوّلات التي قد تحدث الآن. فعلى سبيل المثال قد يلتزم المستهلكون المسنون، الذين بدأوا في التعامل من خلال التجارة الإلكترونية كوسيلة لتعزيز التباعد الجسدي، بهذا الروتين الذي اكتسبوه حديثاً. فقد تبيّن أن الأكبر سناً، لهم النصيب الأكبر من زيادة الشراء عبر الإنترنت من خلال البطاقات الائتمانية المحمولة من 10 ملايين ياباني (شريحة الستينات ازدادت عملياتها من 15.4% في كانون الثاني إلى 21.9% في آذار 2020)، وأولئك الذين في السبعينات (من 10.9% إلى 16.4%).
على جهة العرض، تبيّن أن العديد من مشغّلي المتاجر التقليدية الذين اضطروا لإغلاق أعمالهم خلال الجائحة، يفكّرون الآن في التجارة الإلكترونية كقناة مبيعات مكمّلة لطريقة عملهم السابقة أو حتى بديلة منها. والانتقال إلى المبيعات عبر الإنترنت يتطلّب استثماراً كبيراً. فالعديد من الشركات التي عزّزت مشاركتها في التجارة الإلكترونية خلال أزمة كورونا أصبح لديها حافز للاستفادة من البنية التحتية والمهارات المرتبطة بها التي اكتسبتها خلال الأزمة. هذا هو حال التجّار الكبار الذين استثمروا في البنية التحتية للمبيعات والتوزيع الخاصة بهم في المجال الرقمي. فمثلاً، بحلول 12 نيسان 2020، زاد فرع البقالة في أمازون من سعة الطلب عبر الإنترنت بأكثر من 60% لتلبية الطلب الإضافي، فضلاً عن توسيع نطاق خدمات الاستلام من نحو 80 متجراً إلى أكثر من 150 متجراً. ينطبق ذلك أيضاً على صغار التجّار الذين اضطروا خلال الأزمة للقيام باستثمارات أكبر للحصول على بنية تحتية لتوفير الخدمات عبر الإنترنت. هؤلاء قد يقرّرون تحويل هذه الأدوات والخبرات التي اكتسبوها إلى أصول طويلة الأمد.



أنقر على الرسم البياني لتكبيره


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا