لكن، وما أدراك ما الـ«لكن»، هناك معضلة قد تجعل جميع الحلول المعروضة حبراً على ورق وهي فقدان الإرادة أوّلاً أو أخيراً. أما العوامل الرديفة كـ«المجتمع الدولي» أو «الدعم العربي» فما هي إلاّ أعذار يتسلّح بها كل من لا يريد تحمّل المسؤولية.
لذا، فلنعد النقاط الرئيسَة للحلول المطروحة؛ الأزمة في ظاهرها الآنيّ أزمة في البنية الاقتصادية حيث الطابع الريعي طغى على الطابع الإنتاجي، وبالتالي لا بد من إعادة هيكلة الاقتصاد. هذا الأمر يتطلب تحرير موارد مالية من قبل الدولة لإعادة تأهيل البنى التحتية كي ينطلق الاقتصاد الإنتاجي. غير أن تحرير هذه الموارد صعب في ظلّ الأزمة المالية القائمة التي تعود إلى حجم الدين العام وتداعياته على الاقتصاد بشكل عام وعلى نفقات الدولة والسياسة المالية والنقدية التي يجب اتخاذها.
مسألة الدين العام تتطلّب إعادة هيكلته بشكل يخفّض أعباءه إلى نسب متواضعة من الموازنة العامة. هذا يعني مراجعة أساس أو رأسمال الدين، وإعادة جدولته، وإعادة النظر في الفائدة. لكن الدين العام المتمثّل بسندات الخزينة يحمله بشكل أساسي القطاع المصرفي بشقّيه العام أي حاكمية مصرف لبنان، والخاص أي جمعية المصارف اللبنانية. هذا القطاع مسؤول مباشر وأساسي وإن لم يكن الوحيد عن تفاقم الدين. فالشريك في الجريمة التي ارتكبت بحقّ لبنان لم تكن لتحصل لولا الغطاء والمشاركة المباشرة للقوى السياسية التي تولّت مسؤولية الحكم منذ حقبة الطائف. والواقع الحالي هو أن القطاع المصرفي أصبح قاب قوسين، بل في رأينا في حالة إفلاس جماعي. لذا، تجب إعادة هيكلة القطاع لتحقيق هدفين أساسيين:
- الهدف الأول إعادة الثقة بين المودع والمصرف، وهذا شرط لا بد منه لقيامة القطاع.
- الهدف الثاني إعادة تكوين قطاع مصرفي يتناسب وينسجم مع توجّهات البلاد على الصعيد المالي والنقدي للانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي بدءاً من الحاكمية ووصولاً إلى جسم القطاع تتطلب إجراءات جذرية كإقالة الحاكم وإعادة تشكيل الجسم الإداري لمصرف لبنان، وخفض عدد المصارف مع دور أساسي للدولة في ملكية المصارف. نعم، هناك حدّ أدنى من التأميم المطلوب لإعادة بناء القطاع المصرفي لأن المسؤولين الحاليين في ذلك القطاع أخلّوا بالأمانة وأظهروا عدم كفاءة تمكّنهم من الاستمرار. السؤال هنا كيف ستقارب الحكومة المقبلة هذه المسألة ضمن الخطوط الحمر التي تمنع أي مراجعة جدّية؟
من جهة ثانية، هناك سلّة من الإجراءات التي يروّج لها «حزب المصارف» الساعي إلى التفلّت من مسؤوليته المباشرة في الخراب الاقتصادي، وهي تقضي ببيع ممتلكات الدولة لتسديد القسم الأكبر من الدين العام بحجّة أنه الحلّ الوحيد لتسديد حقوق المودعين. لسنا في إطار المساجلة مع هذا الطرح الذي نرفضه شكلاً ومضموناً لأنه يكافئ المتقاعس ويعاقب البريء فحسب، بل لأن هذا الحل هو بمثابة عدوان على سيادة الدولة في الملكية العامة وعدوان على مصادر القوّة الاقتصادية للدولة. رغم ذلك هناك من يروّج لهذا الطرح ليتهرّب المسؤولون عن القطاع المصرفي من مسؤولياتهم المدنية والجنائية.
الحلول في رأينا جاهزة لكنها تحتاج إلى القرار السياسي. هنا قد يكمن الاستعصاء في الحصول على القرار بسبب ما يُسمّى التركيبة السياسية القائمة في لبنان على قاعدة التوافق بين المكوّنات الأساسية. وبما أن الفساد يشمل معظم القوى السياسية في المكوّنات فتقوم قيادة تلك المكوّنات بحماية نفسها عبر حماية بعضها البعض. فالأزمة الاقتصادية ظاهرها تقني ولكن جوهرها سياسي.
في الشق السياسي لا نتكلّم فقط عن تداعيات البنية الطائفية والمذهبية التي تتحكّم في القرار، بل نذهب أبعد من ذلك عندما نؤكّد أن لا مجال لنمو و/أو تنمية في لبنان، أو حتى في أي بلد عربي فيما الكيان الصهيوني قائم. فالإصلاح السياسي والاقتصادي الذي يروّجه ما يُسمّى بالمجتمع الدولي هو لخدمة الكيان الصهيوني أولاً وأخيراً.
الجامع المشترك بين تجربة مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتجربة الجزائر في الستينيات والسبعينيات، وكذلك الأمر في العراق وفي سوريا، هو القرار الاقتصادي السيادي المستقل. هذا من المحرّمات عند الغرب والكيان الصهيوني. لذلك جرى العمل على إجهاض هذه التجارب بحروب وبانقلابات سياسية على النهج السيادي. واليوم، المسألة ليست الحفاظ على التفوّق العسكري للكيان الصهيوني، بل أيضاً على التفوّق الاقتصادي. الأخير يتم إنجازه عبر تدمير الاقتصادات الوطنية أو إخضاعها لإملاءات المؤسسات المالية الدولية وحكومات دول الغرب. فلا سيادة سياسية من دون سيادة اقتصادية ولا سيادة اقتصادية ممكنة طالما الكيان في صدر حماية الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.
إذا كانت الخيارات والسياسات لمختلف الحكومات في حقبة الطائف مسبّبة للأزمة الاقتصادية والمالية فلا يجب أن يغيب عن البال أن الجهة الخارجية الراعية لتلك السياسات كان هدفها الاستراتيجي إخضاع الاقتصاد اللبناني للقرار الخارجي بما يخدم المصلح الصهيونية. رشوة بعض القوى السياسية المتحكّمة كانت عبر غضّ النظر عن الفساد.
من هنا نفهم اليوم الضغط على لبنان اقتصادياً ومالياً لعزل المقاومة عن بيئتها الحاضنة لها وعن المشهد الحكومي تمهيداً لمحاصرتها ونزع سلاحها بشكل أو بآخر. كما أن التفجير الذي حصل في مرفأ بيروت جاء ليعطي المزيد من الأوراق الضاغطة بيد الكيان في إمكانية الحلول مكان مرفأ بيروت لمصلحة مرفأ حيفا. والتطبيع الخليجي مع الكيان يفتح مجال الخط البرّي بين شرق بحر المتوسط ودول الخليج، ليس لتمرير السلع فحسب، بل لإيصال الغاز والنفط الخليجي إلى شرق المتوسط متجاوزاً سوريا ولبنان.
هذه الاحتمالات الممكنة تصطدم بمصالح استراتيجية لمحور المقاومة من جهة، وللدول الداعمة له وفي مطلعها الاتحاد الروسي. المعركة التي تُخاض في شرق بحر المتوسط بين فرنسا وتركيا تدور حول الغاز كما تدور حول إعادة إعمار سوريا. فمن يمسك بالورقة الاقتصادية اللبنانية يستطِعْ أن يفاوض بملف إعمار لبنان وسوريا والعراق.
لبنان على مشارف نهضة اقتصادية لا مثيل لها إذا أتت حكومة راغبة وقادرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية ومستعدّة لمواجهة الحلف الأميركي الصهيوني الخليجي، وفي المقابل قد يدخل لبنان في نفق عميق إذا لم تأت حكومة مواجهة اقتصادية ومالية
ومن جهة أخرى، تواجه مصر المرتبطة باتفاقيات غاز مع الكيان وقبرص واليونان و«السلطة الفلسطينية»، مأزقاً إضافياً، فيما أصبح الغاز الخليجي واصلاً إلى شرق البحر المتوسط عبر مرفأ حيفا ومتجاوزاً قناة السويس.
ما نريد أن نقوله هنا إن مسألة التطبيع الخليجي تمسّ بالأمن القومي للبنان وسوريا ومصر كما أنها تمسّ بمصالح الاتحاد الروسي. وليس هناك تأكيد بأن ترجمة التطبيع ستكون تلقائية في بناء الخطوط النفطية والغازية والتجارة البرّية لأن ذلك يتطلّب حمايات قد لا تكون متوفرة. كما أن التطبيع الخليجي يدخل الأردن في وضع صعب فوق الصعوبات التي يترنّح تحت وزرها الآن وهي قد تسهم في خلق مناخ غير مستقر يؤثّر بدوره على «سلامة» تنفيذ مشاريع بين الكيان الصهيوني والدول المطبّعة. هذا إذا استثنينا فرضية عدم الاستقرار في دول الخليج المطبّعة التي تواجه نقمة شعبية عارمة من المحيط إلى الخليج. هذه النقمة قد تؤثّر في معادلة موازين القوّة في الإقليم، وقد تحسمها في وقت ليس ببعيد، وبالتالي نعتقد أنه من المبالغة التعويل على خطر وشيك من جرّاء ذلك التطبيع الذي قد يقلب السحر على الساحر.
أما في ما يتعلّق بالملف الاقتصادي اللبناني فما زلنا نعتقد أن استعصاء إيجاد القرار يعود إلى توافق موضوعي من قبل مختلف المكوّنات السياسية في لبنان على عدم المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة. تقدير الموقف على الصعيد الإقليمي والدولي وحتى العربي هو أن ميزان القوّة مختلّ لمصلحة محور المقاومة، بينما الكيان الصهيوني وحلفاؤه من دول الخليج يواجهون صعوبات جمّة في اليمن وسورية ولبنان والعراق، وقد يخسرون مصر.
لذا يصبح تفجير الأزمة المزمنة في لبنان المرتكز إلى المساكنة بين المقاومة وحلفاء الولايات المتحدة هو قرار الإدارة الأميركية بضرورة إنهاء تلك المساكنة وتوجيه ضربة قاصمة للمقاومة عبر الأزمة الاجتماعية التي ستولد من رحم الأزمة الاقتصادية والمالية. صحيح أن الفساد المحلّي لعب دوراً في خلق الأزمة لكن لا يجب أن يغيب عن البال أن الفساد تمّ تشجيعه إقليمياً ودولياً للوصول إلى الحالة التي يجد فيها لبنان. ففساد القوى السياسية المشاركة في السلطة في حقبة الطائف كان الذراع التنفيذية لإخضاع لبنان.
هنا يأخذ البعض على المقاومة عدم الاهتمام الكافي لهذا الملف منذ البداية. لكن في المقابل، يجب الإقرار بأن هاجس الحفاظ على السلم الأهلي قاد المقاومة إلى عدم إعطاء الأولوية لملف الفساد من دون إهماله. تصريحات قادة ومسؤولين في الحزب تؤكّد أن حزب الله قد أعدّ الملفّات لكن ليس بمقدوره فرض الإجراءات التي قد تثبّت تُهمة أنه مسيطر على الدولة أو أنه دولة ضمن دولة وما جرّ من تلفيقات واتهامات.
لبنان على مشارف نهضة اقتصادية لا مثيل لها إذا أتت حكومة راغبة وقادرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية ومستعدة لمواجهة الحلف الأميركي الصهيوني الخليجي. وفي المقابل قد يدخل لبنان في نفق عميق إذا لم تأت حكومة مواجهة اقتصادية ومالية.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا