تعتمد شركات الأدوية الكبرى على الأبحاث العامة، إلّا أنه عندما تحدث أزمة مثل كورونا فيروس، فإن هذه الشركات ستفعل كل ما تستطيعه للحفاظ على منتجاتها من أجل قلّة مختارة. لذا، إنه الوقت المناسب من أجل إعادة التفكير في صناعة الأدوية. وسط تسارع أزمة فيروس كورونا، استطاعت شركة الأدوية العملاقة Gilead Sciences أن تضمن موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية في إطار «لائحة الأدوية المستعصية»، من أجل تركيبة محتملة لدواء ضدّ كورونا، يسمى «ريمديسيفير»، ما من شأنه أن يمنح الشركة تسويقاً حصريّاً لسبع سنوات.بعد انتقادات واسعة من المجتمع المدني وحملة بيرني ساندرز، طلبت Gilead Sciences إلغاء هذه الضمانة، لكنها أشارت إلى سعيها لمراجعة تنظيمية في وقت لاحق. ففي سياق واحد من أكبر التهديدات للصحة العامة في التاريخ الحديث، يعود الفضل للمراقبين والناشطين في تجنّب الاستيلاء المشين من سلطة الشركات على إحدى الوسائل المحتملة للتصدّي للوباء العالمي.
قضية هذه الشركة أظهرت التناقضات العميقة في قطاع الأدوية. فبالإضافة إلى أن تطوير «ريمديسيفير» لم يكن ممكناً إلّا من خلال تمويل من المال العام بقيمة 79 مليون دولار لا ينتج دواء بكلفة مقبولة (يجب أن يكون مجانياً)، لكن تبيّن أن هناك مسؤول تنفيذي رفيع المستوى في الشركة نفسها، أنكر حقّ الجمهور في التدقيق بنتائج البحث. وفي الوقت نفسه تقريباً، برزت تقارير منقولة عن مستثمرين يحاولون توجيه شركات الرعاية الصحية والأدوية نحو رفع أسعار الأدوية والمعدات التي تشتد الحاجة إليها.
يمكن النظر إلى نموذج شركات الأدوية الكبرى من خلال العدسة المالية. فهذه الشركات غير المالية، باتت تتبنّى، بشكل متزايد، استراتيجيات مالية لتعزيز مصالح المساهمين بدلاً من محاولة النموّ العضوي عن طريق زيادة الإنتاج. وبشكل عام، يمكن تحديد ثلاث سمات لهذه الشركات المتأموِلة:
- تعمل الشركات على تنمية أصولها المالية - غالباً نقدية - مقارنة برأس المال الثابت (مثل المصانع والآلات)، لاستثمارها في الأسواق المالية أو لاستعمالها في عمليات الاندماج والاستحواذ التي تعزّز قوّتها السوقية. تكون هذه الاحتياطات النقدية مخبأة في شركة أوف شور (المراكز المالية الخارجية) بما يتيح ذلك من استراتيجية للتهرّب الضريبي. وفي الوقت نفسه، تتحمل هذه الشركات المزيد من الديون لتقليل اعتمادها على الأصول ورفع العائد على السهم.
- تستبدل هذه الشركات، رأس المال الثابت بـ«الأصول غير الملموسة». في كثير من الأحيان، إن هذه الأصول لا تعكس فقط قوّة السوق المباشرة - في حالة حقوق الملكية الفكرية (IPRs) مثل العلامات التجارية وبراءات الاختراع - إنما قيمة الأسهم للشركات المكتسبة من خلال عمليات الاندماج والاستحواذ.
- تعطي هذه الشركات الأولوية لمطالب المساهمين والتنفيذيين باستخدام أموال الشركات لدفع أرباح الأسهم أو إعادة شراء أسهمها.

التقصّي عن الشركات
في تقرير حديث للمركز الهولندي للأبحاث حول الشركات المتعدّدة الجنسيات (SOMO)، درسنا الحسابات المالية لـ27 شركة من أكبر شركات الأدوية في العالم لتقييم مدى التمويل في هذا القطاع بالذات. وجدنا أدلة على السمات الثلاث.
بين عامًي 2000 و2018، ازدادت الاحتياطات النقدية المجمّعة للشركات من 83 مليار دولار إلى 219 ملياراً. حالياً، وبشكل منتظم، تحتفظ الشركات الأميركية بأكثر من ضعفَي النقد الموجود في رأس المال الثابت: على الأرجح، فإنّ هذا الأمر ناتج عن ممارسات إخفاء النقود في الخارج لتجنّب تسديد الضرائب على الأرباح. ولتمويل عملياتها، تعتمد شركات الأدوية الكبرى، بشكل متزايد، على الديون بدلاً من الأسهم. فقد سجّلت الشركات الـ27 نحو 518 مليار دولار من الديون في عام 2018 مقارنة بـ61 مليار دولار فقط في عام 2000.
في المقابل، طرأت زيادة معتدلة على قيمة الاستثمارات الإنتاجية مثل النفقات الرأسمالية ومصروفات البحث والتطوير. هكذا تحوّلت الهياكل الرأسمالية للشركات نحو الأصول غير الملموسة. ففي عام 2018، بلغ إجمالي الأصول غير الملموسة أكثر من 850 مليار دولار، أي بارتفاع كبير مقارنة مع 50 مليار دولار تقريباً في عام 2000. تشير بياناتنا إلى أن الشهرة - القسط الذي تدفعه إحدى الشركات لشراء شركة أخرى مقابل القيمة الدفترية للأخيرة (والذي يقيس صافي قيمة الأصول الملموسة للشركة) - تمثّل نصف القيمة الإجمالية للأصول غير الملموسة.
أهمية هذه الفقاعة المتضخّمة بجولات من عمليات الاندماج والاستحواذ، تكمن في أثرها على ربحية الشركات. ببساطة، إذا نمت قاعدة أصول هذه الشركة بوتيرة أسرع من مجمل أرباحها بسبب التوسّع المستمر، فإنّ العائد الإجمالي على الأصول ينخفض. هذا يتطلّب استراتيجيات أكثر تطرّفاً لتوليد الأرباح عبر رفع الأسعار وإرسال الفواتير للمرضى ومقدمي التأمين الصحي.
هناك حاجة ملحّة لإعادة هيكلة قطاع الأدوية الحالي. لا يمكننا تقديم الصدقات للشركات ونترك الجدال حول قوة الاحتكار وتوزيعات الأرباح


كذلك تطوّرت بشكل ملحوظ توزيعات أنصبة الأرباح لمساهمي شركات الأدوية الكبرى. فالأرباح ازدادت باطّراد واستُكملت من خلال خطط إعادة الشراء. ففي عام 2000 دفعت الشركات الـ27 نحو 30 مليار دولار عبر هذه القنوات إلّا أن المبلغ المدفوع في عام 2018 بلغ 150 مليار دولار. خلال الفترة بلغ إجمالي المدفوعات من جميع الشركات نحو 1.54 تريليون دولار. والأهم من ذلك، أن العوائد اقتربت أو تجاوزت المبالغ المجمعة للاستثمار الإنتاجي (النفقات الرأسمالية ونفقات البحث والتطوير). الشركات الأميركية قادت هذه الحزمة عبر دفع أكثر من 130٪ من استثماراتها الإنتاجية في عام 2018.

كبح الجماح
في المحصلة، إن تحليل الحسابات المالية يسلط الضوء على نموذج الأعمال التجارية لشركات الأدوية الكبرى. وفيما يعتمد هذا النموذج على الأبحاث الممولة من الجمهور (المال العام)، كما هو واضح في مثال دواء remdesivir، فإنّ عمالقة شركات الأدوية يتسابقون للفوز بحقوق الملكية الفكرية من أجل تأمين مكاسب احتكارية مؤقتة. هذا النموذج يفيد المساهمين والمسؤولين التنفيذيين في الشركات، لكنه يعيق فعالية الرعاية الصحية. هذه قضية تكتسب أهمية خاصة في ظل جائحة عالمية.
وبشكل عام، هناك ترّكز متزايد للشركات تغذّيه المنافسة الاقتصادية والائتمان الرخيص أيضاً، في إطار هدف نهائي يكمن في نفخ الإيرادات على المدى القصير ورفع أسعار الأسهم على حساب الاستثمارات الإنتاجية والأسعار المعقولة للأدوية. هذا النموذج ليس غير عادل اجتماعياً فقط، بل هو أيضاً غير مستقرّ اقتصادياً.
في ظل حالة الطوارئ الصحية العالمية غير المسبوقة تاريخياً، أصبحت الحاجة ملحّة لإعادة هيكلة قطاع الأدوية الحالي. لا يمكننا تقديم الصدقات للشركات ونترك الجدال حول قوة الاحتكار والمستويات غير المستدامة من التوزيعات للمساهمين. نحن بحاجة للاعتراف بمساهمة البحث العام، وتقييد حقوق الملكية الفكرية بدلاً من توسيعها، وتوسيع القدرة الإنتاجية العامة بدلاً من الاعتماد على الشركات المملوكة للمساهمين. وبدعم شعبي متزايد، فإنّ الوقت حان من أجل صناعة أدوية تعطي الأولوية للأكثرية على حساب المكاسب الخاصة للأقلية.

* نشر في صحيفة «تريبيون» بتاريخ 14 نيسان 2020