تسبّبت السياسات المالية والنقدية في تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة. كما أدت الاختلالات التي شهدتها الحسابات المالية وميزان المدفوعات إلى استنزاف الاحتياط بالعملات الأجنبية، وإلى تقييد قدرة مصرف لبنان على الحفاظ على سعر صرف ثابت. ونتج عن ذلك تراجع متسارع في التصنيف الائتماني السيادي للبنان الذي وصل إلى درجة CC مع نتائج تشاؤمية للمستقبل.أمّا الخسارة المستمرّة في احتياطات النقد الأجنبي، فقد دفعت بالمصارف إلى فرض ضوابط طوعيّة على خروج رأس المال والحدّ من السحب النقديّ للعملات الأجنبية. وانخفض سعر الصرف في السوق الموازية بنسبة 25% فيما بلغت أسعار الفائدة أعلى مستوياتها منذ عقود.
ونشأ نظام مزدوج للقطع، مع سعر صرف ثابت عند 1514 ليرة لبنانية للدولار، مقابل سعر الصرف الحرّ الذي تجاوز ما قيمته 2000 ليرة لبنانية للدولار الواحد في الأسواق الموازية، إذ عجز مصرف لبنان عن الحفاظ على سعر الصرف الرسمي، ما سبّب تعقيداً في العمليات الجارية في الأسواق المالية، وتحفيزاً للناس على سحب النقود من المصارف بهدف الاستفادة من فروقات سعر الصرف بين السعر الرسمي وسعر السوق.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


الإجراءات الموقتة الرسمية
ما هو الحلّ؟ إن الإجراءات الاستنسابية التي اقترحتها الحكومة السابقة لا توفّر حلّاً دائماً كما بات واضحاً من التعميم «القرار» 13157، الصادر عن مصرف لبنان، الداعي إلى وضع سقوف محدّدة على الفائدة الدائنة للودائع بالدولار (5%) وبالليرة (8.5%) بعد تاريخ 4 كانون الأول 2019. تحديد الفوائد بطريقة مباشرة تعرقل القواعد السوقية بتحديد كلفة رؤوس الأموال ولا يكون لها أثر واسع على هيكل الفوائد الدائنة (للودائع) والمدينة (للقروض). يتوجب على مصرف لبنان اللجوء إلى أدوات غير مباشرة للتأثير في الفوائد بين المصارف الخاصة والزبائن. وهذه ركيزة للسياسات التي تنتهجها عادة المصارف المركزية. إن خفض الفائدة الدائنة فقط يربح المصارف ولا يؤدّي إلى تعافي الاقتصاد، إذ أن الفوائد المرتفعة على القروض هي لبّ المشكلة، إذ أدّت إلى تعثّر القطاع العقاري وارتفاع كلفة الإنتاج للمؤسسات. كما أنها ترهق المالية العامة لخفض عائد ضريبة الفوائد.
وإن اقتراح خفض تمويل العجز المالي من خلال إلغاء الفائدة المستحقة على السندات بالليرة (نحو 3 آلاف مليار ليرة) لصالح مصرف لبنان يشكّل فقط حلّاً موقتاً وتمويلاً استثنائياً يضعف ميزانية مصرف لبنان، ما سيضطره للتعويض عن ذلك من خلال عملية (monetization) خلق سيولة إضافية تؤثّر على الأسعار وعلى سعر الصرف في المدى القريب.

ما هو الحلّ الأفضل
من أهم التدابير الممكنة إلغاء الدين السيادي بالليرة اللبنانية التي يحملها مصرف لبنان والتي تعادل 50% من نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وقيمتها 44 ألف مليار ليرة، وهذا الإجراء لا يحتاج إلى قانون كما يعتقد البعض. سينتج عن هذه الخطوة إذا حصلت، تصنيف ائتماني أفضل وانخفاض في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 100% بدلاً من 150%. إلغاء دين الدولة لدى مصرف لبنان سيخفض كلفة خدمة الدين بنحو 3 آلاف مليار ليرة بشكل دائم ويخفّض العجز المالي للسنة المقبلة (2020) من نحو 8 آلاف مليار ليرة إلى 5 آلاف مليار ليرة. خفض العائد لمصرف لبنان سيُعوَّض عنه بخفض الفائدة التي يدفعها مصرف لبنان على شهادات الإيداع الصادرة عنه والمحمولة من المصارف بما يوازي الـ3 آلاف مليار ليرة التي خسرها من دخل إلغاء دين الدولة. ومثل هذا الإجراء سيؤدّي إلى خفض هيكل الفوائد عامة ويقلّص كلفة الديون للقطاع الخاص في جميع المرافق الإنتاجية والعقارية والخدماتية.
كذلك لا بدّ من أن يتخلّى مصرف لبنان عن سياسة سعر الصرف المزدوج وأن يتّبع سعراً موحّداً. يمكن تحقيق ذلك من خلال التصريح بأنّ سعر السوق الموازية هو السعر الذي تعتمده المصارف، والإعلان عن الانتقال إلى سياسة إدارة مرنة لسعر الصرف بدلاً من السعر المثبت، وهي خطوة جريئة لكن لا مفرّ منها. وقد يستطيع مصرف لبنان الحفاظ على سعر موُحّد من خلال التدخل المعتدل في الأسواق النقدية من خلال استعمال الاحتياط الوفير لديه بالعملات الأجنبية والبالغ 30 مليار دولار بالحدّ الأدنى بعد استثناء حيازته من الذهب المقدرة قيمته بنحو 13 مليار دولار.
من شأن سعر الصرف المدار والقادر على التوفير بحسب الظروف، أن يخفّف من الحاجة إلى احتياطات كبيرة ويتيح لمصرف لبنان زيادة عرض الدولار في سوق الصرف الأجنبية. كذلك، لن تكون هناك حاجة، عندئذ، لأسعار فائدة مرتفعة لجذب العملات الأجنبية.
في غضون ذلك، يجب رفع جميع الضوابط على رأس المال. لا داعي للتخوّف من تدفقات رأس المال الهائلة إلى الخارج، خصوصاً متى اطمأنّ الناس إلى أن ودائعهم محفوظة، فتتبدّد الشائعات المحرّضة والمضلّلة التي تروّج لها المؤسّسات المالية الدولية حول ضرورة خفض قيمة الأوراق المالية والودائع (haircuts)، وأن لبنان مقبلٌ على الإفلاس. الدولة اللبنانية لن تفلس كون أصولها بالعملات الأجنبية تفوق خصومها من هذه العملات وباعتماد الإصلاحات المذكورة.
من الصحيح أنّ رفع الضوابط (القيود على السحب والتحويل) قد يؤدّي في البداية إلى تدفّق بعض الرساميل إلى الخارج، إلّا أن هذه التدفقات تُعدّ صحيّة بالنسبة إلى اقتصاد أثقلته معدلات الفائدة المرتفعة التي يستفيد منها المستثمرون وغير المقيمين، لا سيما أنّ فرص الاستثمار محدودة للغاية في الظرف الحالي. علاوة على ذلك، أصبح خروج رأس المال مقيّداً وأكثر صعوبة نتيجة الشروط الصارمة التي تفرضها الدول المستقبِلة للأموال.
يمكن مصرف لبنان أيضاً إدخال المزيد من الحريّة على حركة رأس المال، وتحرير السوق من خلال خفض نسب الاحتياط الإلزامي المطلوبة على الودائع بالعملات الأجنبية والودائع اللبنانية. ومن شأن هذه التدابير أن تقلّل من كلفة القطاع المصرفي واستعادة الثقة فيه. هذا الإجراء سيخوّل المصارف القيام بالمزيد من خفض الفوائد على الودائع، فتكون النتيجة الإجمالية في اتّجاه خفض عام للفوائد يؤدّي بدوره إلى خفض مجمل خدمة الدين وليس فقط ما يحوزه البنك المركزي.
ويمكن خفض العجز بمبلغ 3 آلاف مليار ليرة إضافية خلال أشهر قليلة عبر توفير طاقة كهربائية موقّتة بقدرة 1000 ميغاوات، ورفع معدل تعرفة مبيع الكهرباء للعموم إلى ما بين 15 سنتاً و16 سنتاً لكلّ كيلوات ساعة. ومع إلغاء الدين المذكور أعلاه يصبح التوفير في العجز 6 آلاف مليار على الأقل وينخفض العجز إلى ألفي مليار ليرة. فمن الضروري فصل الحلّ القصير الأجل للكهرباء، عن الحلّ البعيد الأمد والذي يشمل بناء معامل دائمة. كذلك يمكن اتّخاذ إجراءات تقشّفية أخرى توفّر من العجز المالي. وغنيّ عن الذكر أن لبنان بحاجة إلى إصلاحات هيكلية عديدة.
التدابير الأخرى تشمل إنهاء ما يسمّى بـ«الهندسة المالية» التي تنتفي الحاجة إليها لدى اعتماد سعر صرف أكثر ليبرالية.
لا بدّ من أن يتخلّى مصرف لبنان عن سياسة سعر الصرف المزدوج وأن يتّبع سعراً موحّداً


إن الهدف العام هو تهيئة الظروف التي تسمح للمصارف بكسب أرباحها من السوق وليس من الحكومة والبنك المركزي. وللتحرّك في هذا الاتّجاه، لا بدّ من إدخال تغيير جذريّ على السياسات المالية والنقدية من خلال خفض العجز المالي وأسعار الفائدة بشكل كبير، مع تنفيذ عملية إلغاء الدين العام الداخلي الذاتي، واتّخاذ تدابير فعّالة للإصلاح الهيكلي. لقد أخطأت المصارف بالتهافت على جذب الودائع واستثمار معظمها في القطاع العام (ما يقارب 60%)، وأغدقت على المديرين والمالكين، فوقعت في كماشة القطاع العام مستجدية الحلول.
ولا ينبغي النظر إلى انخفاض سعر الصرف على أنه لعنة بل هو في الواقع نعمة. ولعلّ التأثير الأبرز هو تحويل الطلب نحو السلع المنتجة محلياً (من الأثاث إلى الملابس والمواد الغذائية والمستلزمات المنزلية، وتحويل السياحة بشكل خاص إلى السوق الداخلية). وسيؤدّي انخفاض سعر الليرة اللبنانية إلى خلق فرص عمل واستعادة القدرة التنافسية في السوق المحلية. وستتم إعادة توجيه ملايين التدفقات الخارجة نحو السوق الداخلية.
من الواضح أن الموظفين ذوي الدخل الثابت بالليرة اللبنانية سوف يتضرّرون مبدئياً ولفترة قصيرة تصل إلى 12 شهراً، لكنّ الانتعاش الاقتصادي وخلق فرص العمل الناتج عن ذلك، سيعوّضان عليهم ويسمحان للسوق بالتكيّف. في نهاية المطاف سترتفع أجورهم وسيستعيدون الأرباح التي خسروها وربما أكثر. كما أن التضخّم سيتأثّر بشكل موقّت من خفض قيمة العملة المبدئي، لكنه سرعان ما سيهدأ مع استعادة الإنتاج المحلي وتراجع الخلل في التوازن المالي وخفض عجز الحساب الجاري بالمليارات خلال فترة قصيرة جداً. ومن دون إصلاحات سيزداد الوضع سوءاً.
إنّ العديد من البلدان (بما فيها مصر وتركيا في الآونة الأخيرة) انتقلت من سوق مالي مقيّد إلى سوق متحرّر مع مرونة في سعر الصرف، واعتمدت سياسات مالية ونقدية مشدّدة، وهي تعافت من حالات الركود الحادّة. ولبنان ليس استثناءً.