يتضمّن هذا البرنامج أربع نقاط: 1) إجراءات لحماية سعر صرف الليرة؛ 2) إعداد موازنة استثمارية لتطوير البنى التحتية؛ 3) إعداد موازنة استثمارية لإنتاج الآلات؛ 4) إنشاء «مجلس تخطيط مركزي».
1. إجراءات حماية سعر الصرف
هناك مشكلتان رئيسيتان في لبنان: عجز ميزان المدفوعات وعجز الموازنة. العجز الأول يتكرّر سنة بعد سنة منذ 2011. وأصبح مشكلة كبيرة مع ازدياد هروب الرساميل، أي تحويل الودائع إلى دولار وإخراجها من مصارف لبنان. وهناك عجز الموازنة الذي وجدت الحكومة حلّاً له بنقل تمويل العجز الناجم عن خدمة الدين العام إلى عهدة مصرف لبنان.
وقد اقترحت ورقة الأستاذ محمد زبيب («الأخبار» - 28/10/2019) في موضوع حماية سعر صرف الليرة: ضبط حركة الرساميل، أي منع خروج الودائع لفترة؛ وتخفيض الاستيراد من خلال تعليق الاستيراد غير المُلحّ؛ وقص الودائع من خلال فرض ضريبة استثنائية على الودائع الكبرى؛ واسترداد أرباح الهندسات المالية خلال فترة خمس سنوات؛ وإعادة هيكلة الديون. وتكلّف خدمة الدين العام الخزينة 5.5 مليار دولار سنوياً، أي ثلث الإنفاق العام أو نصف الإيرادات الحكومية. وقد طرحت ورقة الاقتصاديين («الأخبار»، 23/10/2019) تحويل الدين الحكومي الممثّل بـ 85 مليار دولار إلى سندات أبدية بفائدة صفر %. أي حفظ حق الدائنين باستعادة أموالهم مع إزالة عبء الدين العام عن الموازنة.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ويبدو المقترح الأوّل لجهة منع خروج الودائع الأهمّ في الوقت الحاضر. وهو إجراء تولّى المصرف المركزي وضعه فعلياً موضع التطبيق، وتولّت المصارف مهمّة تنفيذه (ولو من دون قانون أو إعلان رسمي). وتقوم المصارف بتطبيق إجراءات منع التحويل من ليرة إلى دولار ومن الداخل إلى الخارج وتقتصر في عملها على خدمة الزبائن بالحدّ الأدنى بانتظار انفراج الأزمة. وهي تستطيع أن تفتح أبوابها من دون أن تخاف بأن يعمد المودعون لسحب ودائعهم لأنها مخوّلة عدم تلبية كلّ طلباتهم.
يحيل المقترح الثاني حول تعليق الاستيراد غير الملحّ إلى استخدام الرقابة على القطع كأداة للسياسة التجارية. أي تقنين استخدام العملات الصعبة حين يتعلّق الأمر بالاستيراد من الخارج. ويمكن أن يتولّى المصرف المركزي تنفيذ هذه السياسة من خلال الامتناع عن توفير دولارات لتلبية طلبات استيراد غير ملحّة، وممارسة رقابة على المصارف التجارية بهدف منعها من إجراء هذا النوع من الصفقات.
وبصرف النظر عن أيّ من الاثنين، هروب الرساميل أو الاستيراد المفرط، مسؤول أكثر عن العجز المتفاقم لميزان المدفوعات، توفّر المقترحات الواردة أعلاه حلّاً موقتاً وفي المدى المتوسّط لعجز ميزان المدفوعات. وهو أصبح العجز الأكثر خطورة لأنّه بات حجة المؤسّسات الدولية، خصوصاً صندوق النقد الدولي، للضغط من أجل خفض سعر صرف الليرة.
ويمكن أن تتمسّك قوى الحراك والأطر السياسية التي تنبثق عنها بالمقترَحين كوسيلتين للتصدي لعجز ميزان المدفوعات. وهذا ما يُبعد شبح انهيار سعر صرف الليرة.
وينبغي أن يكون ثبات سعر صرف الليرة أمراً لا يمكن التنازل عنه أيّاً كان الثمن. وقد سبق إيضاح أنّ أيّ خفض لسعر صرف الليرة هو بمثابة سرقة لمداخيل اللبنانيين والدفع بشرائح واسعة منهم تحت «خط الفقر» (شرحتها في مقالة نشرتها «الأخبار» في 29/10/2018). وإذا انخفضت مداخيل العاملين بنسبة 50% لأنّ سعر الدولار ارتفع إلى 3000 ليرة، فستكون وصفة لتهجير كل اللبنانيين من الشرائح الوسطى والدنيا إلى كندا.

2. إعداد موازنة استثمارية مخصّصة لتطوير البنى التحتية
يمكن اعتبار الضغط الذي مارسه الاتّحاد الأوروبي للالتزام بشروطه في إعداد الموازنة سبباً لانفجار الوضع في لبنان. وهذا ليس جديداً. كانت ضغوط صندوق النقد الدولي لتحرير الاقتصادات العربية وإعادة دمجها في النظام الدولي منذ 1977 وخصوصاً خلال الثمانينيات، السبب المباشر لاندلاع الاحتجاجات في هذه البلدان (احتشامي ومورفي، 1996: 761؛ نيبلوك، 1993: 69).
وقد سبقت الإشارة إلى أن الأوروبيين أكثر شراسة لجهة الإصرار على الالتزام برقمي الـ3% (عجز الموازنة بالنسبة إلى الناتج)، والـ60% (الدين العام بالنسبة إلى الناتج) للإفراج عن قروض «سيدر» (شرحتها في مقالة نشرتها «الأخبار» في 3 و10/06/2019). وذلك لأسباب يعتبرونها - عن حق أو خطأ - ضرورية لأوروبا في صراعها الأسطوري مع التكتّلات الدولية الأخرى لضمان تنافسيتها. وقد كان هذا التشدّد الأوروبي سبب خلاف بينهم وبين البنك الدولي حول لبنان. ويعرف البنك الدولي من تجربته الطويلة مع البلدان النامية أنّه لا يستطيع التشدّد على هذه الصورة.
ويمكن، باختصار شديد، القول إن لبنان يستطيع التخلّي عن أموال «سيدر» الموعودة، وهي 12 مليار دولار، وإعداد موازنة استثمارية في البنى التحتية ولدعم إنتاج الآلات، تقوم على استخدام أموال النفط والغاز في لبنان، ولو لم يُستخرجا بعد.
أمّا البنى التحتية التي يكتسب تطويرها أولوية فهي:
1) شبكة الطرقات. وهناك مثلاً وصلة جونيه - طبرجا من الأوتوستراد التي أنجزت في النصف الثاني من الستينيات، أي قبل نصف قرن، ولم يصَر إلى تطويرها مذذاك. وهي تمثّل نقمة لعموم اللبنانيين ومصدر إحباط لهم ومدعاة تبخيس منهم لقيمة وطنهم. ونسمع أن الاستملاكات لتوسيع الأوتوستراد أُنجزت منذ وقت ليس بقصير. ولا ندري ما يمنع أيّة حكومة قادمة من الشروع خلال أيام بتنفيذ هذه الوصلة. ويكون ذلك دليلاً على قدرتها على الإنجاز؛
2) المناطق الصناعية: كان سبب الاحتجاج الأكثر تكراراً على ألسنة المتظاهرين هو البطالة، وبطالة المتعلمين قبل الكلّ. بل إن الرفض اللبناني الشديد للنموذج الاقتصادي المحلي هو لعدم قدرته على توفير عمل للقاطنين خصوصاً الشباب منهم. ينبغي أن تنشئ الدولة في وقت قياسي ثلاث أو أربع «مناطق صناعية» عملاقة في نطاق بيروت الكبرى. وذلك باستخدام المساحات غير المبنية واستملاك أراضٍ إضافية لبناء وتجهيز «محميات صناعية» لاستضافة المؤسّسات الصناعية اللبنانية التي ستنشط في ميدان إنتاج السلع التجهيزية أو الآلات. ويمكن خلال مهلة أسبوعين إنجاز الإجراءات الآيلة إلى ذلك.

3. إعداد موازنة استثمارية لدعم إنتاج السلع الترسملية
الحلّ الجذريّ لمشكلة البطالة يكون ببناء اقتصاد منتج. لكن ذلك لا يتحقّق إلا بتحوّل الدولة إلى «المستثمر الأول». عنى ذلك عند كينز أن تتولّى الدولة الإشراف على ثلثي إلى ثلاثة أرباع الاستثمار. وطبّق ذلك حرفياً بلدان هما إنكلترا وفرنسا بعد 1945.
لم تلجأ الدولة التنموية الآسيوية إلى «تأميم الاستثمار»، بمعنى حلول الدولة محلّ المستثمرين من القطاع الخاص. بل قامت بـ «تأميم مخاطر الاستثمار»، من خلال استخدام أشكال الدعم والحماية كافة لـ «تعظيم قدرة النخب الاستثمارية على الاستثمار».
ينبغي أن تطلق الدولة سيرورة «تحويل صناعي» أو «تصنيع متأخّر» من خلال ولوج ميدان إنتاج السلع التكنولوجية كالسيارات المدنية. يكون ذلك باستيراد الماكينات و«تعلّم» إعادة إنتاجها بالقدرات المحلية. وقد اقترحنا قبل سنتين على وزير لبناني الاستعانة بخبرة إيران في ميدان إطلاق قطاع السيارات المدنية (شرحتها في مقالة نشرت في «الأخبار» – ملحق «رأس المال» في 23/04/2018). ولم يلقَ اقتراحنا متابعة.
إن لبنان يستطيع التخلّي عن أموال «سيدر» الموعودة، وهي 12 مليار دولار، وإعداد موازنة استثمارية في البنى التحتية ولدعم إنتاج الآلات، تقوم على استخدام أموال النفط والغاز في لبنان



4. إنشاء «مجلس تخطيط مركزي»
من يبلور الأفكار المطروحة أعلاه ويجعلها إجراءات قابلة للتنفيذ؟ ليست الإدارة الحكومية بوضعها الحالي قادرة على تولّي التنفيذ. لقد أُفرِغت من إمكاناتها على مدى عقود. وهي في الأساس لم تكن معدّة للعب دور تدخّلي في ميدان السياسة الاقتصادية. وهي باتت شاغرة. وكنا قد وصلنا إلى حالة حيث يتولّى قاضٍ بمفرده إعداد كلّ مشاريع القرارات الحكومية في كلّ المجالات. وما تمّ انتزاعه من الإدارة الحكومية اللبنانية هو مقدرتها على «التعلّم في ميدان إعداد السياسة الاقتصادية» (policy learning). ويحلّ محلّ هذه الإدارة «إدارة رديفة» يشرف عليها «برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي» (وهبه، 2017).
وينبغي إنشاء «مجلس تخطيط مركزي» تكون الكفاءة أساساً لتكوينه، ويُحترم في تكوينه التوزيع الطائفي والمذهبي للمواقع. وتكون مهمته الأولى أن يلعب دور «مجموعة تفكير» (Think Tank). وتقع عليه مسؤولية بلورة الأفكار وكيفية وضعها موضع التنفيذ.

مراجع
Ehteshami Anoushiravan, and Emma Murphy, “Transformation of the Corporatist State in the Middle East.” Third World Quarterly 17 (4), 1996, pp. 753–72.
Niblock Tim,”International and Domestic Factors in the Economic Liberalisation Process in Arab Countries", in Niblock Tim, Emma Murphy (eds.), Political and Economic Liberalisation in the Middle East, London: British Academic Press. 1993, pp. 55-87.
ألبر داغر، «كيف نحمي شعب لبنان من انهيار محتمل لسعر صرف الليرة»، «الأخبار» – ملحق رأس المال، 29/10/2018.
ألبر داغر، «كيف نحمي الشعب من خفض الإنفاق العام»، «الأخبار» – ملحق رأس المال، 3 و10/06/2019.
ألبر داغر، «نحو سياسة تصنيع متأخر»، «الأخبار» – رأس المال، 23/04/2018.
محمد وهبه، «الـUNDP في رئاسة مجلس الوزراء»، «الأخبار» 22/08/2017.
محمد زبيب، «إجراءات لحماية الليرة»، «الأخبار» - رأس المال – 28/01/2019.