ينظر رياض سلامة من شبّاك البنك المركزي إلى شارع الحمرا مقابله، حيث يتجمّع المتظاهرون ضدّه، ويقول بينه وبين نفسه: "أصبحت وحيداً الآن، تُرِكت في هذه اللحظات الحرجة لاتخاذ القرارات الصعبة".
إن غياب أي تخطيط اقتصادي للبلاد يعني أن السياسة النقدية هي التي تقود الاقتصاد، بدل أن يكون الوضع معكوساً وكما يُفترض أن تكون الحال، أي أن تقود السياسة الاقتصادية البلاد. يبدو أن هذا الخلل الرئيس المُطبق على البلاد تمكّن منه أخيراً.
يُدرك سلامة جيّداً أن أي قرار قد يتّخذه سيؤثّر في المتظاهرين في الشارع. سيؤثّر في مستوى معيشتهم ونوعية حياتهم وفرص العمل المُتاحة. وأيضاً سيؤثّر في رجال الأمن المُفترض استدعاؤهم لقمع المظاهرات في حال وصلت إلى مستوى يُهدّد النظام. وكذلك سيؤثّر في فئة الـ1% أي النخبة التي تسيطر على البلاد، وفي الطبقة الوسطى أيضاً. هي مشكلة اجتماعية جدّية وتتدحرج ككرة ثلج. ربّما هذه المرّة الأولى في تاريخ لبنان التي تتضخّم فيها مشكلة مُماثلة وتنتشر مثل النار في الهشيم، هكذا بشكل عشوائي، وتطاول كلّ الفئات والطبقات الاجتماعية والاقتصادية، من خلال اليد الخفية لقوى السوق. إنّه توزيع شامل، وربّما عادل، للخسائر.
يمكن لأي اقتصادي هاوٍ رؤية المشكلة والحلّ
اتخاذ إجراءات جذريّة قد يخلق عداوات عدّة وفي وقت واحد. ومع ذلك، كانت المشكلة أكبر بكثير من أن يتحمّلها رجل واحد، فهي تتطلّب بذل جهد يتمّ التنسيق له بين كلّ أطراف السلطة. وفي كلّ الأحوال، لا توجد حبّة سحرية لإزالة الألم، لذلك كان الخيار باتباع سياسة الهبوط الناعم بدلاً من الفوضى الشاملة.
تمثّل التحدّي الأكبر بكون العديد من صنّاع القرار، المُعيّنين سياسياً، لا يفهمون حقيقة الأزمة فعلياً، وبالتالي لم يكونوا قادرين على تقديم حلّ. الكثير منهم لديه الخبرة في تقديم الولاء لرعاتهم الخارجيين أو الخروج بتصريحات إعلامية، فيما القليل منهم مؤهّل فعلاً. أمّا الذين فهموا المشكلة جيّداً، مثل منصور بطيش، فبالكاد يتكلّمون أو يتفقون على خطاب واحد، على الرغم من أن الجهد الذي قد يبذلونه له أهمّية حاسمة لإخراج البلاد من الأزمة وإبعادها عن الهاوية.
يمكن لأي اقتصادي هاوٍ رؤية المشكلة والحلّ، ولا سيّما معظم المحلّلين الاقتصاديين اللبنانيين الذين باتوا شخصيات إعلامية تلفزيونية، علماً أنهم لا يملكون التدريب الكافي أو الخبرة لمكافحة هذا السرطان الذي نواجهه. كثيرون منهم كانوا مفيدين لفترة مُحدّدة، ولا سيّما في مديحهم لحاكم المصرف المركزي. شكّل هؤلاء مجموعة من "الأغبياء المفيدين" (useful idiots) في الأوقات الجيّدة. أمّا اليوم، فتحتاج البلاد إلى شيء مختلف، تحتاج إلى قيادة لإدارة الأزمة. وربّما أكثر ما يحتاج إليه الحاكم هو توقّف هؤلاء الاقتصاديين عن الثناء عليه، وأن ينقلوا إلى الناس الرسالة الصعبة التي قد تحرّكهم نحو الخوض في "المقاومة الاقتصادية". في كلّ الأحوال، كانت هذه التدابير الاستثنائية آتية لا محال. في السابق، كان لنا ترف القيام بها في الوقت والمكان اللذين نختارهما... أمّا الآن فهي تحدث بقوّة الأمر الواقع. تمنّى سلامة في هذه اللحظة لو أن الإعلام لم يصوّره يوماً بأنه الجبّار الذي يحمل البلاد كلّها على كتفيه، والقادر على إيقاف أي عاصفة بإشارة من يده.
يبرع الاقتصاديون في تحليل العرض والطلب ومعدّلات الفائدة وغيرها من المعادلات الرياضية. لكن هذا ليس كافياً، لأنه يفتقد للحلّ السياسي. عموماً الخيارات الحتمية ليست في الغالب مفضّلة من الناحية السياسية.
تكمن الإجابة على المشكلة بتقاطع السياسة والاقتصاد. لا سيّما أن كلّ حلّ من الحلول المُقترحة سيضرب الدائرة المؤيّدة لأحد الأحزاب السياسية. فمن هو السياسي الذي قد يجرؤ على إخبار مؤيّديه بأن عليهم التخلّي عن مكتسباتهم؟
البلاد أشبه بحافلة تتّجه نحو هاوية
أغمض سلامة عينيه، وأخذ يفكّر مليّاً. في مخيّلته، تبرز البلاد وكأنها حافلة تتّجه نحو هاوية، فيما الركّاب يتجادلون حول عدد المقاعد التي يمكن لكلّ منهم أن يحصل عليه، بدلاً من محاولة عكس وجهة الحافلة وتجنيبها الوقوع.
العجز التوأم، أي العجز التجاري والعجز المالي، هما بكل بساطة التعبير الصريح عن نزيف الدولارات نحو الخارج واستهلاك الودائع المصرفية. الأمر أشبه بسدّ الجوع عبر القضم من الجسم نفسه ومن دون الشعور بذلك. علماً أن كلّ الحلول تتطلّب نظاماً يكبح استهلاك الدولار.
في هذه اللحظة، تساءل سلامة عمّا إذا كان قد اقترف أخطاءً خلال مسيرته: "ربّما كان عليّ تعويم الليرة بين عامي 2008-2010، عندما كانت الدولارات تتدفّق إلى البلاد وتُراكم الفوائض". في حينها، كان يمكن لسعر الليرة أن يتحسّن ويصل إلى ألف ليرة مقابل الدولار، ومع تحوّل ميزان المدفوعات من فائض إلى عجز في عام 2011، كانت قيمة الليرة ستنخفض ببطء لتصل مجدّداً إلى 1500 ليرة مقابل الدولار، ومن ثمّ إلى ألفي ليرة مقابل الدولار اليوم، وهو ما يشكّل هبوطاً ناعماً وتدريجياً. لكن من هو العبقري الذي يستطيع أن يدّعي، اليوم وبصراحة، بأنه رأى
هذا السيناريو في السابق؟
تتطلّب كلّ هذه الخيارات إصدار قوانين ومراسيم حكومية أسوة بما حصل في قبرص واليونان
إعادة تقييم معركة حصلت في السابق وقرأنا الكثير عنها في كتب التاريخ لا تشبه أبداً، لا من قريب ولا من بعيد، عملية اتخاذ القرارات المصيرية خلال المعركة نفسها.
هنا، أخذ سلامة بطرح التساؤلات حول هندساته المالية: "هل فعلاً أعطيت الكثير للمصارف، لدرجة أن مدراءَها صدّقوا فعلاً بأنها أموال حقيقية؟ وبأنهم يحقّقون أرباحاً طائلة بسبب فطنتهم ومهارتهم في العمل المصرفي؟". يدرك سلامة جيّداً أن هؤلاء المدراء قبضوا علاوات طائلة واشتروا شاليهات في فقرا أسوة بعباقرة الاستثمار، على عكس الذين استثمروا في توسيع فروع مصارفهم في الخارج وفشلوا فشلاً ذريعاً كونهم كانوا يتنافسون مع مصرفيين فعليين ووفق نماذج أعمال مصرفية حقيقية، بدلاً من عالم ديزني الذي كان سلامة مسؤولاً عنه جزئياً، وسمح من خلاله لهؤلاء بالحصول على أرباح مجّانية من دون أي تعب ومن دون أي قيمة مضافة.
إذا حدّقت في الهاوية، ستراها تحدّق فيك
تنهّد سلامة قليلاً وقال: "لقد كان بإمكان الدولة أو الشعب الحصول على حصص من أسهم هذه المصارف التي أنقذتها، وكان يمكنني منع أي مصرفي من قبض أي علاوة قبل إعادة كل قرش استُخدم في إنقاذ المصارف إلى دافعي الضرائب والمودعين". يتملّك سلامة غضب شديد وهو يفكّر بالأمر، خصوصاً أنه اضطر قبل أشهر إلى تسديد استحقاقات سندات يوروبوندز للمصارف، وهي دولارات قبضوها وأبقوها خارج البلاد.
يدرك سلامة جيّداً أن مدراء البنوك قبضوا علاوات طائلة واشتروا شاليهات في فقرا أسوة بعباقرة الاستثمار
يعلم سلامة أن هناك حاجة مُلحّة لإجراء عملية جراحية تُخرج البلاد من الهاوية. كان عليه إمّا أن يوازن بين الحفاظ على تراثه وإطالة أمد الاحتياطي لثلاث سنوات إضافية إلى حين انتهاء ولايته، رامياً المشكلة على الرجل الذي سيأتي بعده، أو أن يواجه المشكلة الآنية والطويلة الأمد والتي لن تنتهي بسرعة. إنها مشكلة سياسية فعلاً لا اقتصادية. بمعنى آخر، إنها مشكلة تتفاقم نتيجة حسابات ضيّقة يأخذها في الاعتبار كل زعيم سياسي. من السهل الخوض في لعبة تقاذف المسؤوليات وإلقاء اللوم على آخرين أو العثور على كبش فداء يتّخذ القرارات الصعبة. الأمر مشابه تماماً لحرائق المشرف والدامور. ما الذي كان أسهل، إخمادها أو إصدار بيانات صحافية غاضبة؟
تذكّر سلامة نظرية نيتشيه: "إذا حدّقت في الهاوية ستراها تحدّق فيك". عندها، أخذ ينظر بعمق إلى الاحتمالات الماثلة أمامه:
• تخفيض سعر الصرف:
سيؤدّي ذلك إلى خفض مجمل الدَّيْن على الفور، ورفع الإنتاجية والتنافسية وتقليص المستوردات. يؤمن صندوق النقد الدولي بهذا الحلّ، وقد عبّر عن ذلك مرّات عدّة. ومن المحتمل أن يكون ذلك شرطاً مُسبقاً قبل أن يمدّنا الصندوق بأي فلس. يكره سلامة هذا الخيار، لأنه بكل بساطة يتعارض مع الجوهر الذي بنى إرثه عليه. ولكنّه في المقابل، يتمتع بمزايا عديدة، إذ سيؤدّي إلى خفض رواتب العديد من المنتفعين من وظائف القطاع العام وعكس آثارها الجانبية، وهو أمر لم تتمكّن الحكومة الحالية من تحقيقه بسبب الإضرابات التي قامت بها القطاعات المُتضرّرة. ولكنّه سيضرب أيضاً الأشخاص المطلوب منهم ضبط الإضرابات الشعبية وقمع التحرّكات المدنية مثل الجيش وقوى الأمن الداخلي وأجهزة الاستخبارات. من منا يتذكّر من كان حاكم البنك المصرفي عندما انخفض سعر الصرف في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ومباشرة قبل تولّي سلامة منصبه؟ لا أحد. كما أن الشعب اللبناني في حينها لم يحاسب أحداً. اسأل 100 لبناني، ممن عايشوا تلك الفترة، عن السبب الذي أدّى إلى انهيار العملة المحلّية، وبالتأكيد ستحصل على 100 جواب مختلف. لقد كانت "قوة قاهرة" تماماً كما أي زلزال. أيضاً، جرّب أن تبحث على محرّك غوغل عن عبارة "حاكم مصرف لبنان"، ولن يظهر في نتائج البحث سوى اسم رياض سلامة. وكأنه لم يكن هناك أي حاكم للمصرف المركزي قبل عام 1993. كما لو أنه أبو البنك المركزي، تماماً كما أن آدم وحواء هما والدا البشرية. على الرغم من ذلك، لا يوجد أدنى شكّ بأن سلامة يحتاج إلى غطاء سياسي قبل أن يخفّض سعر الصرف، فهو لن يتحمّل وحده العواقب. النجاح لديه مئات الآباء، والفشل يتيم.
تعويم الليرة كان ممكناً بين عامي 2008-2010، عندما كانت الدولارات تتدفّق إلى البلاد وتُراكم الفوائض، ليصل إلى ألفي ليرة اليوم
• توسّع السوق السوداء أكثر وأكثر:
تحديد سعر صرف ثابت للمواد الأساسية، وأسعار صرف مختلفة للكماليات والسلع الأخرى. الأمر أشبه بغسل ماء الوجه من دون الاعتراف بخفض قيمة العملة. لا يزال السعر الرسمي، حتى اليوم، مُحدّداً بـ1507.5 – لاحقاً سيتمّ تحديد الكمّيات وعدد العملاء الذين يمكنهم الحصول على الدولارات بهذا السعر، إنّما مع الاستمرار بإنكار حصول تخفيض في سعر الصرف. يدرك سلامة جيّداً أنه لا توجد عملة في تاريخ البشرية خرجت عن نطاق التثبيت وعادت إلى ما كانت عليه – إنها رحلة بوجهة واحدة. لكن، في المقابل، نجحت العديد من البلدان بالاستمرار في مسرحية سعري الصرف لفترة طويلة. لم يكن الأمر مثالياً طبعاً، إلّا أنه شكّل دعماً فعّالاً للسلع الأساسية. إنّما حتى في هذه الحالة، هناك أثر سلبي للنظام اللبناني الفاسد القائم على الزبائنية. الحلّ الذي قدّمه سلامة لتأمين شراء الفيول والقمح قد يكون ناجحاً في أي بلد آخر، إلّا أنه في لبنان، سيقضم من هوامش أرباح المستوردين (بعض هؤلاء يستثمرون أموالهم النقدية بمعدّلات فائدة عالية إلى حين استحقاق مدفوعاتهم التي قد تصل إلى 270 يوماً). فالتدابير الطارئة والاستثنائية في بلاد يعمّ فيها الفساد، سرعان ما تتحوّل إلى فرصة لتحقيق الربح السريع والسهل، من دون أن يتكبّد أي شخص عناء القلق حيال اتجاه الحافلة نحو الهاوية. لذلك يصف الرئيس عون الوضع بـ"الرقص على باخرة التايتانيك". لقد كان الاقتراح المقدّم لحلّ مسألة استيراد الفيول غير واقعي في بلد يرتكز على منظومة من الاحتيال.
• وضع ضوابط على حركة رأس المال والحدّ من التحويلات من الليرة إلى الدولار:
لقد بدأت المصارف بهذه الإجراءات فعلياً نتيجة شحّ الدولارات لديها، ولكن ليس بطريقة مُحكمة ومضبوطة. لقد سمحوا لنسبة معيّنة من الودائع بالهروب. كان سلامة يشعر بالقلق من تقييد السحوبات بشكل كامل، لأن ذلك يُخيف الرساميل ويحدّ من التحويلات إلى الداخل، بما يفاقم الوضع أكثر. كان قلقاً أيضاً من تركيبة الودائع والرساميل الهاربة، خصوصاً أن خروج العديد من فئة الـ1% الأكثر غنى، يعني أن المخاطر التي قد تنجم عن قصّ الودائع (haircut) ستطاول المودعين الصغار، وعندها سيكون الاقتطاع من الودائع غير متناسب وسيطاول تعويضات ضباط الجيش المتقاعدين والمودعين الآخرين. يدرك سلامة أن عليه القيام بهذه الضوابط قريباً، لكنّه أراد فقط تأجيل الاستحقاق إلى أطول فترة مُمكنة.
• تحويل كلّ الودائع إلى الليرة وتخفيض سعر الصرف:
قد يؤدّي ذلك إلى عدم تطابق أصول المصارف مع المطلوبات المتوجّبة عليها، وهي مشكلة تقنية يُفترض استباقها وحلّها.
• تحويل كلّ الأصول والمطلوبات إلى الليرة:
وهو ما يعني عملياً إلغاء الدولرة من الاقتصاد، ومن ثمّ تخفيض سعر الصرف. لكن في مرحلة ما، يتطلّب اللجوء إلى تدابير مُماثلة، إصدار قوانين لتحويل كلّ العقود بالدولار، مثل الرهون العقارية، إلى الليرة وبالسعر الرسمي الحالي.
• قصّ الودائع التي تتجاوز سقفاً معيّناً:
أو منع المودعين من سحبها مع إعادتها إليهم بعد 20 سنة وربّما أكثر ومن دون أي فائدة. ومع أن الخيارين سيؤدّيان إلى النتيجة الرياضية نفسها، إلّا أن الخيار الثاني أسهل، لا سيّما في بلد لا يفقه ناسه القيمة الزمنية للنقود (time value of money).
• تحويل الودائع إلى أسهم مصرفية (كما حصل في قبرص) أو إلى سندات خزينة.
تتطلّب كلّ هذه الخيارات إصدار قوانين ومراسيم حكومية أسوة بما حصل في قبرص واليونان. تعافت قبرص سريعاً بمجرّد أن انتزعت الرصاصة من جسدها. لكن في لبنان، الجميع يماطل، لأن لا أحد يريد أن يخبر اللبنانيين بالحقيقة المرّة... ولذلك تستمرّ الحافلة بوجهتها نحو الهاوية.
أصبح واضحاً بالنسبة إلى سلامة أن الطبقة السياسية الحاكمة استسلمت وبدأت تُعدّ العِدّة لإطلاق حملة ترامي المسؤوليّات والتفلّت منها. يتساءل سلامة بينه وبين نفسه إن كان هناك أي من السياسيين يريد العمل معه: "هناك العديد من الأشخاص ذوي الكفاءة من مختلف الأحزاب اللبنانية، ومن خارجها، ممن أدركوا خطورة الوضع، وهم على استعداد لإدارة الأزمة والخروج منها. فهل يمكن تشكيل حكومة تكنوقراط مُصغّرة، تضمّ نساءً ورجالاً، من الأكثر كفاءة، تُمنح صلاحيات استثنائية وسلطة اتخاذ القرارات التنفيذية والصعبة، للعمل على حلّ المشكلة؟.
إن أردنا يمكننا النجاح معاً، وإن لم نرد فحتماً سنفشل معاً".
ينظر سلامة إلى الساعة، إنها السابعة مساءً. ليس وقتاً متأخّراً على رجل اعتاد السهر في مكتبه، لكنّه اليوم مرهق، الأرجح من فارق الوقت بين لبنان والولايات المتحدة التي عاد منها إلى مكتبه فوراً. ينده مرافقه – وسائقه أيضاً – ليجهّز السيارة. لا يوجد لدى سلامة العديد من المرافقين أسوة بغيره من الشخصيّات، لم يشعر بحاجته إليهم إذ لطالما كان محبوباً ولو أنه لم يعد اليوم واثقاً من مدى حكمة قراره، فضلاً عن إيمانه بأنه حين تأتي لحظة المرء لا يمكن لمئات الحرّاس والمرافقين أن يردّوا عنه الضرر. غالباً ما يستشهد بحادثة اغتيال صديقه الراحل الرئيس رفيق الحريري، الذي لم تحل ثروته الطائلة وموكبه الضخم من منع ذلك وتوفير الحماية له.
أثناء خروجه من البنك المركزي، كان زجاج السيارة الداكن مفتوحاً قليلاً، تتلاقى عينا سلامة بعينَيْ متظاهر يضع رباطاً على رأسه على بعد مترٍ واحد منه. يتحادقان النظر، كلاهما يعبّر عن رمز يتناقض مع الآخر، الأوّل يرمز إلى الشعب الموجوع والآخر إلى المنظومة الرأسمالية اللبنانية... أو ربّما هما الآن مجرّد مواطنين يتواجهان بالنظرات. ظنّ سلامة أن ذلك الشاب سيبدأ الصراخ وسينده لرفاقه الذين سيحتشدون حول السيارة لتكسيرها. لكن لم يحصل ذلك. ربّما رأى الشاب الحزن في عيني الحاكم. فكّ الرباط عن رأسه وأعطاه لسلامة، ثم أدار ظهره عائداً إلى حشود المتظاهرين التي تهتف شعارات مناهضة له وللبنك المركزي.
* مصرفيّ متقاعد، باحث في جامعة هارفرد