باريس | آخر فصول الحملة الإعلامية التي يقوم بها معمر القذافي لإيقاع شرخ في صفوف محاربيه موجه اليوم إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، لأن باريس كانت أول بلد اعترف بالمجلس الوطني المؤقت للثورة الليبية. فقبل أسبوع، خرج القذافي الأب بالتهديد بـ«إفشاء سر كبير قد يطيح ساركوزي»، وقد انتظر الجميع يوماً بعد يوم أن ينفذ العقيد تهديده، وخصوصاً أن ميزان القوى على الأرض لم يكن لمصلحته، وكانت الدول على قاب قوسين أو أدنى من أن تقر قرار حظر الطيران،
وتتالت سلسلة عقوبات لتصيب عائلة الديكتاتور ومن ثم الحلقات المقربة منه مع تجميد أموال الجميع في المصارف والشركات مع تهديد بمنع تصدير النفط.
مع ذلك لم يأت شيء يدعم هذه التهديدات، وبقيت فقاعات في الهواء. وفي خلال أسبوع تطورت الأمور على الأرض وبدأ العد العكسي لتراجع الثوار مع ظهور التباين الكبير القائم بين القوى الغربية حول «جدوى التدخل أو عدمه»، مع تذبذب واضح لموقف كل من إيطاليا وبريطانيا نتيجة تردد ألمانيا وتخوف الولايات المتحدة من «عراق ثان»، إضافة إلى تخبط المواقف الأميركية والأوروبية في اليمن والبحرين.
بالطبع التقط النظام الليبي إشارات الضعف هذه وظهر ذلك جلياً في الحملة الإعلامية المنظمة التي يقوم بها لـ«تصفية حسابات مع الغرب»، فهو يلوّح بالنفط للدول التي من الممكن أن تدعمه دعماً غير مباشر بالحديث عن «حصرية استغلاله من شركات صينية وروسية وهندية»، ويلعب على وتر «التبرم من تصرفات ساركوزي» ليلوّح بأن مواقفه المتطرفة تخبئ رغبة بالتخلص من «شاهد ثقيل».
وعلى شاشات القناة الأوروبية «أورونيوز»، خرج سيف الإسلام القذافي ليطلب من ساركوزي «إعادة الأموال التي سبق أن قدمتها ليبيا للرئيس الفرنسي لتمويل حملته الانتخابية». وأكّد أنه يملك جميع تفاصيل هذه المسألة وأنّ طرابلس على أتمّ الاستعداد لتقديم الأدلة على الحسابات المصرفية والوثائق والتحويلات التي استُخدمت في منح الأموال للرئيس الفرنسي. وتابع بهدوء وبرودة أعصاب «أول شيء نطلبه من هذا المهرج هو إعادة هذه الأموال إلى الشعب الليبي». وأضاف مفسراً سبب هذا التعامل المالي بأن هذه الأموال أعطيت لساركوزي «لمساعدة الشعب الليبي»، إلا أنه يبدو أن «ساركوزي نكث بهذا الوعد»، لذا «عليه ردّ فلوسنا».
ومع نفي مصدر في الإليزيه أن يكون ساركوزي قد «استفاد من أموال ليبية»، رأى مراقبون في باريس أن «الحركة الإعلامية» للقذافي تبدو مكشوفة الأهداف، فهو يسعى «إلى حشر ساركوزي الذي يبدو رأس حربة المعارضة الغربية له» والذي يحض على توجيه ضربات عسكرية مباشرة.
ورأى مصدر مقرّب من الحزب الاشتراكي الفرنسي أن الحركة الليبية «دفاعية وتبدو ذكية وإن كان يصعب تصديقها»، لأنها تحاكي العلاقات السابقة بين ساركوزي والقذافي والزيارات المتبادلة التي بدأت فور وصول ساركوزي إلى الإليزيه، وأسهمت بقدر كبير بإخراج النظام من عزلته الدولية، واستفزت في آن واحد المواطن الفرنسي.
كذلك يبدو أن عصابة القذافي على بيّنة بوضع ساركوزي على الساحة الداخلية وتراجع شعبيته بقوة وتقدم شعبية مارين لوبن ممثلة الجبهة الوطنية على حسابه، وبالتالي هو يذكّر بأنه «قبض ٥ مليارات ثمن ضبط دفق المهاجرين». وكلما تقدم العقيد القذافي في طريق استعادة السيطرة على الوضع في شرق البلاد، زادت رهبة المراقبين من توقعات «انهيار الثورة» وبقاء «عصابة القذافي» ممسكة بالبلاد في ظل حظر دولي لا يعني شيئاً نظراً للامتداد الشاسع للبلاد وطول الحدود مع العديد من دول الساحل وأفريقيا السوداء. وقد ظهر مع الوقت أن الفريق الحاكم في ليبيا كان مستعداً ومجهزاً للثورة أكثر مما بدا في بداية الصراع قبل شهر، وأن وسيلة استيعاب الضربات لم تكن فقط على الصعيد العسكري، بل على صعيد التهديدات الإعلامية والتلويح بفتح «ممرات الهجرة»، وهو ما بات «سلاحاً يلوّح به القذافي في كل مقابلة تلفزيونية». وأكثر ما يخيف المراقبين هو «دولة منبوذة تسيطر عليها شلة القذافي» تمسك بمنابع النفط ومنافذ ركوب المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة والعرب المراكب نحو أوروبا.
ويبدو أن هذا السيناريو هو الذي يخيف وزير الخارجية الفرنسي، ألان جوبيه، الذي يعترف المقربون منه بـ«أن ساركوزي لم يستشره حين استقبل ممثلي المجلس الوطني». وكتب على مدونته أمس «عن استعداد دول عربية للمشاركة بعملية عسكرية ضد النظام الليبي». وأضاف أن العقوبات القانونية والمالية مفيدة، لكنها لا تكفي، وأعاد التذكير بأنه يمكن «تحييد وسائل القذافي الجوية التي قلبت المعادلة على الأرض من خلال ضربات موجهة»، لكنه ربط هذا بشرطين: الأول الحصول على تفويض من مجلس الأمن الدولي، والثاني هو التحرك بمشاركة فعلية لدول عربية.
ويعلق أحد الدبلوماسيين العرب في باريس على هذا الطرح بأن جوبيه «ينظر نحو البحرين ويفكر في ليبيا». ونصحه بأن يقرن الواقع السياسي بالواقع الجغرافي ويضعهما في الواقع العربي المهزوز «ثورياً».