بقدر ما تتعلق الاحتجاجات التي تشهدها بلغاريا بموضوع الفساد السياسي والمحسوبية، بقدر ما هي تعبير عن واقع مأزوم اقتصادياً أيضاً، ولا سيما أن الدولة العضو السابق في كتلة المنظومة الاشتراكية أيام الاتحاد السوفياتي تُعدّ من أواخر وأفقر الدول التي انضمت الى الاتحاد الأوروبي.
لعل السبب الأساس الذي اندلعت لأجله الاحتجاجات كان تعيين رجل الأعمال النافذ ديليان بيفسكي، وهو صاحب إمبراطورية إعلامية في البلاد، في منصب رئيس وكالة الأمن القومي، بما يشير الى نظام محسوبية لا يتماشى بتاتاً مع شروط عضوية بلغاريا الى جانب 27 دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي.
فالاتحاد كان قد حثّ بلغاريا على تعيين متخصصين في المناصب العليا في جهازي القضاء والأمن اللذين يستشري فيهما الفساد والجريمة المنظمة.
لهذا كانت المفوضة الأوروبية للشؤون القضائية فيفيان ريدينغ، من الداعمين للمحتجين بقولها عبر تغريدة على تويتر «أتعاطف مع المواطنين البلغار الذين يتظاهرون احتجاجاً على الفساد في بلادهم».
هذا في الشكل، أما من حيث المضمون، فثمة علاقات معقّدة في الخريطة الحزبية للبلاد، تبلورت بصورتها النهائية مع انتخابات أيار الماضي، لتصل الى ذروتها أمس بمحاصرة الغاضبين لأكثر من مئة شخص، من بينهم رئيس الحكومة بلامين أورشارسكي، ونحو 33 وزيراً وصحافيون في مبنى البرلمان في العاصمة صوفيا، مطالبين باستقالة الحكومة ومحاسبة
الفاسدين.
بدأت الأزمة في الواقع منذ شهور عديدة باحتجاجات شعبية على مستويات المعيشة وعدم معالجة الفساد، حيث وصلت الى إضرام ثمانية أشخاص النار بأنفسهم تباعاً بسبب تردّي الوضع المعيشي وارتفاع كلفة فواتير الكهرباء
والتدفئة.
واقع دفع حكومة حزب «مواطنون من أجل التنمية الأوروبية لبلغاريا» (يمين الوسط) برئاسة بويكو بوريسوف، إلى الاستقالة في شباط الماضي، والذهاب إلى انتخابات
مبكرة.
ورغم أن الحزب نفسه عاد الى المشهد كأكبر حزب في البرلمان بعد انتخابات أيار الماضي، بيد أن عدم حصوله على غالبية تخوّله تسلّم الحكم، أفسح المجال أمام الحزب الاشتراكي «بي اس بي»، لتشكيل حكومة تكنوقراطية مع حزب صغير هو «حركة الحقوق والحريات» الممثلة للأقلية التركية، برئاسة أورشارسكي.
وذلك بعد رفض زعيم «بي اس بي» سيرغي ستانيشيف، تولي هذا المنصب. لهذا كان المتظاهرون الذين طوقوا البرلمان، حيث كانت ثلاث لجان تعمل على مراجعة موازنة العام 2013، أول من أمس، يصفون الحكومة بحكومة أقلية. وطالبوا النواب بالاستقالة من مناصبهم، ووصفوهم بالمافيا.
أمام الأزمة الحالية، بدا أن رئيس الوزراء، الرافض الاستقالة، ركّز على موضوع عضوية دولته في الاتحاد الأوروبي، إذ حذّر من أن انهيار الحكومة سيحرم بلغاريا من الحصول على مساعدات يُقدّر حجمها بمليارات الدولارات من الاتحاد الأوروبي لأنه يتعين التفاوض على هذه المساعدات بحلول نهاية العام.
ويبدو أن البرلمان يحاول دائماً امتصاص نقمة الجمهور على قراراته، فبينما تراجع النواب عن قرار تعيين بيفسكي في رئاسة مجلس الأمن القومي، ألغى رئيس البرلمان ميخائيل ميخوف، جلسة برلمانية كانت مقررة أمس، مؤكداً رفضه للعنف، بعد إصابة عشرين شخصاً بجراح، بينهم شرطيان نتيجة الاشتباكات، وخصوصاً أن الجلسة كانت مقررة لإعادة النظر في الموازنة العامة للدولة بعد طلب الحكومة، فيما لم تعد مطالب الشعب مقتصرة على إلغاء قرار، بل باتت تشكل انعكاساً لحركة جماهيرية ناقمة على كل الطبقة السياسية التي تُتّهم بالفساد وبالخضوع لسلطة أصحاب النفوذ. ما ينذر بثورة ضد حكم المافيا في البلاد.