strong>معمر عطوي
لم يكن اتفاق القطبين المتنازعين على تقاسم السلطة
في إيرلندا الشمالية، مجرّد اتفاق «تاريخي» وحسب، بل مؤشر إلى مزيد من التغيّر في السياسة البريطانية، الداعمة للبروتستانت، تجاه الجيش الجمهوري الإيرلندي، الذي كان التحاور معه أحد المحرمات السياسية، بحسب رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر

8
  • أيار موعد التقاسم النهائي للسلطة بين البروتستانت والكاثوليك

    شكّل اتفاق بلفاست في 26 آذار الماضي، منعطفاً مهماً في تاريخ ايرلندا الشمالية، بعدما وقعه زعيما الحزبين «اللدودين» في البلد: الوحدوي الديموقراطي (بروتستانت) برئاسة ايان بيزلي، الذي يدعو إلى الاندماج مع بريطانيا، والشين فين (الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي ــــــ كاثوليك) برئاسة جيري أدامز، الذي يدعو إلى الاستقلال.
    وبموجب الاتفاق المذكور، تُشَكَّل إدارة مشتركة بين الطرفين، في الثامن من أيار المقبل، لإدارة الإقليم، وسط توقعات أن يصبح بيزلي رئيساً للحكومة في الإدارة الجديدة، بينما يصبح مارتن ماكغنيس (من شين فين) نائباً له، على أن يتفق المسؤولان على توزيع المناصب الوزارية العشرة في الحكومة شبه المستقلة على أساس النسبيةسبق هذا الاتفاق انتخابات تشريعية في 7 آذار الماضي، حلّ فيها الحزب الوحدوي الديموقراطي والشين فين، في طليعة الفائزين، حيث حقق الأول 36 مقعداً، بينما حصل الثاني على 28 مقعداً، من أصل 108 مقاعد في الجمعية الإيرلندية الشمالية.
    وكان الحزبان قد حققا فوزاً كاسحاً بالمقاعد في الانتخابات التشريعية في عام 2003، غير أنهما فشلا في التوصل إلى اتفاق على قيام حكومة تتقاسم السلطة، ما جعل الحكومة البريطانية تدير دفة الحكم في البلاد من لندن.
    أسباب عديدة قد تكون مهّدت للاتفاق الأخير، يمكن تلخيص أبرزها بالآتي:
    ــــــ قناعة راسخة داخل «الشين فين»، بأن العنف لم يعد يخدم أهدافه في التوصل لاستقلال الإقليم.
    ــــــ أدت أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة، دوراً كبيراً في تحديد اتجاه الحزب نحو مزيد من المرونة، ولا سيما أن التجييش العالمي الذي حمل شعار محاربة الإرهاب، ترك بصماته على طبيعة حركة الجيش الجمهوري، لجهة التمويل، إضافة إلى التسويغ الشرعي للاستمرار بأعمال عنف، كان المدنيون الضحية الأولى لها.
    ــــــ أدت أيضاً الجالية الإيرلندية في الولايات المتحدة، بما تشكله من ثقل اقتصادي وانتخابي، دوراً مهماً بالضغط على الإدارة الأميركية من أجل المساعدة على وقف العنف وإحلال السلام في الجزيرة. ودعمت هذه الجالية أيضاً الإقليم بأموال طائلة من أجل تعزيز المؤسسات وتنشيط حركة الاقتصاد كمقدمة لبلورة سلطة قائمة بذاتها.
    ــــــ الدور البريطاني الذي يتمتع بالحصة الأبرز في إنجاح التسوية، حين «انتهك» حزب العمال أحد «المُطْلَقات» السياسية، التي كانت ترفض بتاتاً الحوار مع الجيش الجمهوري، ورحب بالحوار المباشر مع الشين فين، مقدمة لإبداء مرونة تمتع بها الطرفان.
    ــــــ يأس الطرفين من استمرار نزاع دام عقوداً من دون أن يؤتي ثماره.
    نهاية حرب طاحنة
    قبل الوصول إلى اتفاق بلفاست الأخير، مرّت الأزمة الإيرلندية بمراحل عديدة، كان بداية حلحلتها اتفاق بلفاست في عام 1998، أو ما عرف باتفاق «الجمعة العظيمة».
    وأسس اتفاق «الجمعة العظيمة»، الذي وقعته كل من ايرلندا وشمال ايرلندا وبريطانيا في عام 1998، بداية لحل سياسي، منهياً حقبة من الحرب الأهلية الطاحنة، التي اتخذت شكلاً مذهبياً بين الكاثوليك والبروتستانت، وامتدت لأكثر من ثلاثين عاماً، قتل خلالها نحو 3500 شخص.
    وكانت بريطانيا وإيرلندا قد أعلنتا في عام 1993 أحقية كل سكان ايرلندا الشمالية بتقرير مصيرهم والدعوة إلى بدء محادثات سلام عامة، ما مهّد لإعلان الجيش الجمهوري وقف عملياته العسكرية من جانب واحد، لكن نتيجة التقدم السياسي البطيء أسقطت الهدنة في عام 1996.
    لكن رئيس «الشين فين»، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي، جيري أدامز، بقي متمسّكاً بنهجه السلمي، وبعدما أصبح عضواً في البرلمان البريطاني في عام 1997، ضغط باتجاه إعادة «الشين فين» إلى المفاوضات، ونجح في إقناع الجيش الجمهوري بإعلان وقف إطلاق النار في كانون الثاني1997.
    وفي التاريخ نفسه، وعقب وصول حزب العمال إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا، قام رئيس الوزراء الجديد طوني بلير، بمبادرة لحل الخلافات، من خلال دعوته قادة حزب الـ«شين فين» إلى مقر رئاسة الوزراء، واستقبل جيري ادامز، في أول لقاء بين رئيس وزراء بريطاني وقيادي من الجيش الجمهوري الايرلندي منذ عام 1921، حين التقى زعيم الحزب في ذلك الحين مايكل كولينز مع رئيس الوزراء البريطاني آنذاك دافيد لويد جورج.
    ومهّد لقاء بلير وأدامز لاتفاقية بلفاست (اتفاقية الجمعة العظيمة)، وأهم بنودها مجلس حكم مستقل منتخب في ايرلندا الشمالية، إضافة إلى تقاسم السلطة واستفتاء على توحيد ايرلندا أُجري في أيار 1999، وكانت النسبة 71 في المئة نعم في ايرلندا الشمالية، و94 في المئة نعم في ايرلندا المستقلة.
    لكن نزع السلاح عُدَّ مفهوماً مأساوياً للاستسلام في نظر بعض أركان الجيش الجمهوري، وظهرت عقبات كثيرة في طريق الحل، كانت أبرزها في تشرين الأول من عام 2001 حين انسحب خمسة وزراء بروتستانت بقيادة زعيم حزب «ألستر» الاتحادي من حكومة بلفاست، مشترطين تخلي الحزب الجمهوري عن سلاحه للعودة.
    كما جُمِّد البرلمان في ايرلندا الشمالية في تشرين الأول 2002، وسط الحديث عن وجود حلقة من الجواسيس الذين يعملون لحساب الجيش الجمهوري، في داخله.
    نزع الأسلحة
    وفي 28 تموز من عام 2005، أفاد مراقبون دوليون بأن الجيش الجمهوري الإيرلندي تخلّص من الأسلحة التي استخدمها طوال 30 عاماً لمقاومة الحكم البريطاني لإيرلندا الشمالية، في خطوة من شأنها المساعدة على إيجاد تسوية سياسية. وقرّرت بريطانيا كإجراء موازٍ خفض قواتها في إيرلندا الشمالية من نحو 11 ألفاً إلى 5 آلاف.
    ويبقى السؤال الأهم ريثما تتم عملية تقاسم السلطة في أيار المقبل: هل يمكن أن يلعب نجاح الإرادة الشعبية، التي أصبحت الحكم في تقرير المصير، دوراً في إعلان استقلال إيرلندا بأقل خسائر ممكنة؟




    قصة النزاع

    قسَّمت بريطانيا جزيرة ايرلندا، في عام 1921، إلى جزءين. مُنح الاستقلال لأحدهما وقُسِّم إلى 26 مقاطعة ذات غالبية كاثوليكية، وتحول في ما بعد إلى دولة ايرلندا الحرة، فيما بقيت المقاطعات الست الأخرى الواقعة في شمال ايرلندا جزءاً من المملكة المتحدة.
    وفي عام 1922، أُعلن استقلال ايرلندا من دون الجزء الشمالي منها، ما أدى إلى نشوب حرب أهلية بين المعتدلين والراديكاليين.
    وتُعَدُّ ايرلندا الشّمالية جزءاً من المملكة المتّحدة، وتغطّي 5,459 ميلاً مربّعاً (14,139 كيلومتراً مربعاً) من المنطقة الشمالية الشرقية لجزيرة ايرلندا، نحو سدس مساحة الجزيرة. ويقدّر عدد سكان هذا الجزء بـ1,685,000 نسمة وفق إحصاء عام 2001. ويقع ضمن محافظة ألستر، وفي المملكة المتحدة المعروفة بمقاطعاتها الأربع.
    وتأسّس الجيش الجمهوري الايرلندي، الجناح العسكري لمنظمة الشين فين، في عام 1919 بوصفه وريثاً للمتطوعين الإيرلنديين (منظمة قومية فدائية تأسست عام 1913) لمقاومة النفوذ البريطاني في ايرلندا عسكرياً، من أجل تحقيق جمهورية مستقلة.
    وخلال الحرب الإيرلندية للاستقلال عن بريطانيا (1919ــــــ1921) استعمل الجيش الايرلندي بقيادة مايكل كولينز التكتيكات الفدائية مثل الكمائن والهجمات والتخريب لإجبار الحكومة البريطانية على التفاوض، وكانت نتائج التسوية تأسيس كيانين سياسيين جديدين: الأول، الدولة الايرلندية وتشمل 26 مقاطعة تم منحها السيادة، لكن بقيت ضمن الإمبراطورية البريطانية، بحيث يقسم أعضاء الحكومة قسم الولاء للعرش البريطاني.
    أما الثاني فكان ايرلندا الشمالية، التي تضم 6 مقاطعات، وتسمى «محافظة آلستر». وبقيت جزءاً من المملكة المتحدة.
    لكن هذا التقسيم لم يلق القبول لدى عدد كبير من أعضاء الجيش الإيرلندي، فانقسم إلى قسمين: الأول، بقيادة كولينز وهو المؤيد للمعاهدة مع البريطانيين، والثاني غير المؤيد للمعاهدة تحت قيادة رئيس «الشين فين» إيمون دي فاليرا. وأصبحت مجموعة كولينز أساس الجيش الرسمي للدولة المستقلة، فيما أصبح القسم الثاني، الذي عرف بـ«اللانظاميين» معارضة مسلحة ضد الحكومة المستقلة الجديدة.
    في نهاية الستينيات، اندلعت أحداث عنف في ايرلندا الشمالية، التي كانت لا تزال تابعة للحكم البريطاني، بسبب مطالبة طائفة الروم الكاثوليك (وهم الأقلية) بحقوقهم المدنية وبالانفصال عن بريطانيا والوحدة مع جمهورية ايرلندا، في خطوة واجهها الايرلنديون البروتستانت وقوات الشرطة التابعة لايرلندا الشمالية. وانقسم الجيش الجمهوري الايرلندي في دبلن (عاصمة جمهورية ايرلندا ــــــ الجنوبية) حول التدخل في الأحداث خوفاً من حمام الدم، لكن الرأي المؤيد للتدخل، وخصوصاً بتأثير قسم من الجيش الموجود في ايرلندا الشمالية، شق طريقه للأمام، وانقسم الجيش إلى «الرسميين» في دبلن، والى «الجيش الجمهوري» في بلفاست. وبدأت حملة عسكرية اضطرت بريطانيا إلى التدخل بقواتها وفصل المناطق البروتستانتية عن الكاثوليكية، ما أدى إلى حرب شاملة من الجيش الجمهوري ضد الجيش البريطاني، تطورت في منتصف السبعينيات إلى مواجهات عنيفة جداً، أدّت إلى تدمير بلفاست، وجزء كبير من المدن الأخرى. وامتد نشاط الجيش الجمهوري إلى لندن، حيث قام بتفجير الأهداف التجارية والمطاعم والفنادق هناك.
    ومع بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد وفاة العديد من المعتقلين من الجيش الجمهوري في السجون البريطانية، إثر إضرابهم عن الطعام، أو ما سمي إضراب الجوع، قوي الجناح السياسي للجيش الجمهوري «الشين فين»، بشكل كبير، وأصبح أكثر حيوية بقيادة جيري آدمز الذي أثار أولاً الحوار الداخلي، وخصوصاً حول سقوط المدنيين في العمليات وحول «كفاية القوة العسكرية فقط» لتوحيد ايرلندا.
    ومنذ أوائل التسعينيات، بدأت تتبلور خطط لإقامة السلام في الإقليم، بدأت تظهر داخل الحزب الجمهوري، الذي أصبح يدمج بين انتمائه للكاثوليكية والإيديولوجية الماركسية اللينينية، وامتدت علاقاته لتشمل تيارات يسارية في أميركا اللاتينية وشرق أوروبا والشرق الأوسط.
    وبدأ الحديث عن وقف العنف يتخذ موقعه في الأداء السياسي للحزب، رغم تصلّب بعض الأقطاب داخله وتمسكهم بالخيار المسلح لتحقيق أهدافهم.
    لكن اتفاق بلفاست، الذي قصم ظهر البعير، ترك آثاره بشكل كبير على الاتجاه المتشدد داخل الجيش الجمهوري، إلى أن تراجع هذا الاتجاه وصولاً حتى عام 2005، تاريخ الإعلان عن ترك السلاح.




    اتفاق بلفاست

    يستند اتفاق بلفاست لعام 1998 في أحد أهم مبادئه إلى البيان الذي وقعه ألبرت رينولدز عن جمهورية ايرلندا ورئيس وزراء بريطانيا السابق جون ميجور في عام 1993 والذي ينص على حق شعوب ايرلندا الشمالية في تحديد مصيرها.
    وتم الاتفاق على:
    ــــــ إلغاء القانون الخاص بحكومة ايرلندا، الذي يفرض سيادة بريطانية على الجزيرة كلها.
    ــــــ تأييد حق جميع سكان ايرلندا الشمالية في حمل جنسيات ايرلندية أو بريطانية، والاتفاق على عدم تغيير هذا الوضع مهما تغير وضع ايرلندا الشمالية السياسي.
    ــــــ الرجوع الى الشعب في أي خطوات تُتَّخَذ بشأن مستقبل ايرلندا، مع الإشارة إلى أن جميع الأطراف متفاهمون على أن معظم سكان ايرلندا الشمالية يرغبون في الاستمرار كجزء من بريطانيا، لكن معظم سكان جزيرة ايرلندا ككل ومعهم أقلية لا بأس بها من الشمال يتطلعون إلى تكوين ايرلندا متحدة، أي انفصال شمال ايرلندا عن بريطانيا.
    ــــــ لن يتغير أي موقف سياسي لايرلندا الشمالية إلا بموافقة سكانها من خلال الاستفتاءات التي تقام بأمر من وزير الخارجية البريطاني، وتكون المدة بين الاستفتاء والآخر سبع سنوات، على الأقل.