اختار رجل الغلاف أن يحملق فينا وهو معلقٌ في الهواء. الألوان التي تغمر مدينته شاحبة تشي بمزاج متخم بالكرب. البنايات وراءه تبدو متراصّة، مشيّدة مثل القلاع القديمة، لكنّ سقوفها مائلة كظهر عجوز على وشك أن يتهاوى. الشقق زاخرة بالعتمة كما لو أن عواميد الإنارة المتصدّعة وشرائط الكهرباء المبعثرة، من شأنها إثارة الكركبة والإضاءة على القباحة فحسب. المشهد برمّته معطل. كل الأشياء الموجودة لا تعمل، ومع هذا، فإنها تصرّ بإلحاح على بقائها ثابتة لا تتزحزح، جامدة مثل صنم وثني خالد.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

للأعطال أضرارها، منها أن يتفشّى فيك القلق كطفح جلدي لأنك مكبّل في مدينة تعجز عن الانفكاك عنها، أو أن ينهشك الاغتراب ويتركك شاحب الوجه تقيم في المنازل القاتمة، فيما بقاؤك هناك ليس سوى تقيّد محكم؛ إذعانٌ للعواقب المشمئزّة والثواب المستحيل.
من يرِدِ الانزياح عن هذا السبات العقيم فلا بدّ من أن يقفز. لقد قرّر رجل الغلاف أن يضع مدينته بين قاب قوسين والتفلت من ادّعائها القاتل ومزاجها المكروب. يقفز لأنه رفض العماء الذي تفرضه عليه لطخات اللون الذابل ليضيء طريقه بلون الشمس.
لا هو متشبثٌ بالحبال ولا هو آبه بسقوطه. تعلو على وجهه نظرة تعاند السهو، يتفتّق منها ما يجعله يُحرّك أصابعه: المثابرة في التخطي، المضي قدماً، والالتواء قفزاً بدلاً من الوقوف استقاماً، وهذا أشبه بالاستطراد، أي الانتقال من موضوعٍ إلى آخر، أو ما سمّاه الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو مقتبساً المصطلح عن الفرنسي مونتين، بالقفز والوثب.
قد يتهيّأ لأحدنا أن إطالة النظر إلى رجل الغلاف مضنية، تُتعب الناظر وترهق نظره. يحدث ذلك إن قررنا النظر من زاوية تشبه فتحة المفتاح الموجودة في الباب، تلك المساحة الضيّقة التي تسمح للمتلصّص أن يرصد هدفه. لكنّ المراد من هذا العدد الذي تهدف مقالاته إلى تقليب الأفكار رأساً على عقب، وإعادة فحصها من جديد، وأخذها على طريقة الاستطراد، إلى أماكن أخرى، هو حثّ النظر إلى رجل الغلاف لتكون النظرة إليه أشبه بالتواطؤ معه، وكأنه في علوّه هذا يصقلنا معه، ففي النهاية، هذا هو تحديداً، المراد من هذه القفزة. فلنأخد إذاً، تلك الحملقة على محمل الجدّ.