العقول متهالكة جرّاء عجزها عن اللحاق بكل ما تبثّه وسائط الترفيه. وبالرغم من هذا، فالأجساد محدودبة تقوّضها عمليات التجميل، والهويات مفككة تغلّفها فقاقيع من صابون تأخذ نصائح عيشها من الـ«لايف كوتش»، والوجوه متورّمة، منفوخة، تتغذى على البلاستيك. هكذا هي ملامح الإنسان إذا ما أراد أحد رسمها لتخليد ذكراه. الخيالات مصقولة بصور مثيرة ومتورّطة بسردياتٍ مشوّقة غير آبهة بسوء الفهم الذي ينخر أدمغتها. الخيالات جامحة تترجم جميعها الإشارة التي تتلقاها، لذلك وجب التعريف بأنها ليست خيالاتٍ وأنها برمّتها خيالٌ (واحد) رديء. الخيال الرديء يقتل «الحقيقي» المكروه ويبني على أنقاضه أبراجه الافتراضية، وصنّاع المشهد يريدونك أن تصدّق أن الواحد زائد واحد يساوي خمسة كما غنّت فرقة «راديوهيد».
(تصميم: فرنسوا الدويهي)
مدينة الملاهي استعارة العصر والعالم غارق في الفهم الرديء. «كوميديُّ» كان عنوان معرض الفنان الإيطالي ماوريزيو كاتيلان الذي أقامه في قاعة «سييول ليوم» في كوريا الجنوبية. عمله التجهيزي مينيمالي الطابع، يقتصر على تلزيق موزة على حائط كبير. قصدَ كاتيلان من قطعته الفنية الاستهزاء من مآل الفن الحديث والتهكم على النماذج الساذجة التي أنجزت تحت عنوان الفن الحديث، إلى حدّ إلصاق وصمة الكوميديا عليه. ماوريزيو كاتيلان لم يكن يعلم أنه سيقع ضحية نفسه، لكنّ شاباَ كان من ضمن زوار المعرض أوقعه بهذا المأزق بعدما قرر أن يأكل قطعته الفنية؛ التهم موزة كاتيلان بحجة أنه جائع. قد يعتقد الإيطالي أن هذا التأويل نابع من فهم رديء، لكن العبرة التي يمكن استنتاجها أن عنوان المعرض «كوميديُّ» ينطلي على الفنان أكثر مما هو تعريفٌ بفنّه. الرداءة هنا ستسمح لنا بفهم فكرة بودريارد عن تقليد التقليد، أو النسخة عن النسخة، كعملية لا تفسر سوى أنها تكرار ركيك يًفقد بريق الأصل ويبعثر المعاني. ما علينا سوى إسقاط هذا التفسير على أحوال اليوم لنفهم لماذا تبدو الخيالات رديئة.
ستصيب لوثة الرداءة أعضاء جائزة نوبل عندما قرروا منح الجائزة لكاتبة يوميات وسيَر ذاتية تصيغ جملها بأسلوب شفهيّ يشبه كتابة التقارير الإخبارية. ستصيب كذلك الأمر تلك الكاتبة التي جاء إهداء كتابها خليطاً من الاعتراف المباشر والبوح المضمر: «إنك رجل عظيم، لكنني متزوجة. لذلك أعتقد أن علينا أن نبقى أصدقاء فقط». فمهما تراوحت الاستجابة على هذه الجملة، أي في حال فهمها المتلقي على أنها غمزٌ مغوٍ ليأخذ المبادرة بوصفها في المقام الأول إهداء، أو بحال اعتبرها رسالة وداع قاسية، ففي الحالتين سيكون فهمه رديئاً. في فيلم pulp fiction حرصت ميا والاس (إيما ثورمان) على أن لا توقع فينسنت فيغا (جون ترافولتا) بهذا الالتباس. ولهذا السبب تحديداً، فقد تأخرت عن إفصاحها له بنكتتها التي سبَق أن حذّرته بأنها نكتة بائخة. «ثلاث ثمرات طماطم تسير في الشارع. الثمرة الأب والثمرة الأم والثمرة الابن. الأخير بدأ يتخلّف وراءهما في السير فانزعج الأب للغاية. فعاد إليه وسحقه وقال كاتشب». إن الكلمة المفتاح هنا هي كاتشب كونها تنطوي على معنى مزدوج عقب السمع. فرنين ketchup يوازي catch up والتي تعني «الحق بي» (أو «نلتقي» في استعمالها الدارج) كما أنها ketchup، وهي مفردة القرن، أي صلصة البندورة المنقوعة في السكر. الثمرة الأب دهس الثمرة الابن فحوّلها إلى صلصلة كاتشب، أي أنه قتله ثم قال لابنه الحق بي. يبقى حسّ الفكاهة عقيماً مهما تكثفت المفارقة أو بلغ شأنها، لأن الضحك على أب دهس ابنه الذي يتبختر وراءه ببطء يفقد النكتة غرضها ويفضي بالوجه كئيباً. أما القول بأنها نكتة يندرج إما كسوء فهم غليظ وإما في معجم الرداءة. لم يضحك فينسنت فيغا ولم يكن السبب لأنه كان مرتاباً يشعر بأنه على شفير ذبحة قلبية كما قد زعم وليس لأنها نكتة عبثية، بل لأنه تلقى النكتة، التي أُسيء توصيفها، على أنها مغازلة: إحالة رومانسية ليقرر على إثرها الغوص في حبٍ رديء.
كلمة المفتاح موجودة لكن الأبواب مغلقة، والخيال الذي نحاط به يجعل الأقفال موصودة بشدّة حتى يكاد الخروج من سوء الفهم يكون مستحيلاً. بدلاً من أن يكون الكاتشب نكتة مضحكة وصلصة رثّة، نراه يحتلّ الشاشات، ويكسو الأطباق، ولو كان الأمر بيد الأطفال لكانوا دهسوا أهاليهم لكي يحصلوا على نتفٍ من لزاجته.
في القطار المجنون داخل مدينة الملاهي هذه، لا بدّ من وجود صرخة فهم صارخها خطورة اللعبة على نحوٍ جيدٍ بعدما غاص في سرعتها الرهيبة واكتشف رداءتها عن تجربة. صرخة من شأنها أن تشير إلى الرديء، أن تدلّ عليه، برغبة آسرة بأن يكون لديها صدى قادرٌ على اقتلاعه، لأنه مثلما أخبرنا pulp fiction، دائماً ما يمكننا تصحيح المسار.