يقول الشعراء أن بإمكان الأشياء أن تصير شعراً إن نظرنا إليها عن كثب. المؤرخون يصرحون بالقول ذاته مع تعديلٍ طفيف يطاول الصياغة. هم يقولون: إن تراص الأحداث بما يوحي به من هدوءٍ وصلابة ما هو سوى فتيلة مؤجلة الاشتعال، فإذا ما اقتربنا من الأحداث قليلاً لشعرنا بلهيب حرارتها، ولأدركنا سريعاً أن بإمكان السيرورة، بطرفة عينٍ، أن تصير حرباً.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

الشعراء والمقاتلون يعلمون أن فروقات قليلة تميّزهم. هم يعرفون في العمق أن سرّ مهنتهم، هو، تحديداً، اللحظات المتفجرة التي تلي صوت الانفجار الكبير. في الحرب شاعرية محمومة تصقل حرارة المقاتل إلى درجاتٍ مرتفعة، وفي الشعر وميض مرعب، كلما برق أحرق جلد الشاعر تاركاً ثقوباً سوداء تحت عينيه. ليس هناك من وقت للحرب مثلما أنه ليس هناك وقت للشعر، وكل ما نشهده منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، في وفرة المقاتلين ورداءة الشعر، ومن فائض الشعراء وقباحة الخراب، ما هي سوى مظاهر من جولات متفرقة لحربٍ كبرت في العمر وبات نَفسها ضيق. صارت تتعب بسرعة بعد أن تخطت القرن من الزمن.
لكنها حربُ، تبقى على حالها مهما ترهلّت أو غزتها التجاعيد؛ بطشاء، هوجاء، طائشة. لا الماء الذي تدلقه على وجهها كافٍ لغسل آثامها، ولا بياض الممحاة كفيل بمحو لون سمائها الأحمر المشبّع بالدم المهدور. الحرب تتقن المواربة، سباتها هو فسحة يقظة، تنام برموشٍ مفتوحة وتستبدل رنين المنبه بأزيز الرصاص. الحرب لا تحتاج إلى مساحيق تجميل لتبدو غاوية، ثم إنها تعرف كيف تخفي وجهها بدون أن تنحني بالضرورة لتخبئ رأسها، تماماً مثلما حدث في فيلم «أشباح بيروت» (غسان سلهب). فبينما ظن الجميع أنه ميّت، وقع ما لم يكن متوقع: فجأةً، ظهر خليل بعد غيابٍ طويل، فاحتدمت الأحداث وانفجرت السيرورة. إن اللحظة التي حطّ فيها خليل جعلت من حضوره موازياً لحضور الحرب. أشباح بيروت نفسها تزور عواصم المنطقة العربية بأسرها وتهدد بأن تطلق العنان لضجيجها المرعب. الحرب هي الحرب. أنت في خضمها، شاهدُ على أوراق نعوتها وركاكة يومياتها، ويا للشاعرية! إن نسمة هواء تلفح وجهك تحث فيك الحنين لماضٍ بليغٍ قد غمرَ أيامها مرةً.
إن الكتابة عن الحرب، هي كتابة راهنية، لأنها كتابة عن اليوم، بشكله ومضمونه وأحواله. إن البوسطة المشؤومة التي مرّت في بيروت بتاريخ 13 نيسان 1975 لا تمت لهذا العدد بصلة، يعني أن عددنا هذا ليس مخصصاً لحربٍ معينة أكثر ما هو محاكاة لواقع الحرب التي تطاردنا أشباحه وعن الإرث الذي حملناه وقد حان وقت تفحصه.