سيُوصونك بالصبر والخَرَس، وبالتغاضي عمّا يزعجك. الابتعاد عن وجع الرأس هو التصرّف الأمثل، وإذا ازداد الأمر قذارة سيربّتون كتفيكِ من بين أكتاف آخرين مثلك، وسينصحونكم كلّكم مجدّداً بالتخلّص مما يثقلكم، أو الصراخ بوجهه كردّة فعل مهذّبة. التخلّص من الشيء يعني أنه قائم، غير أن التخلّص من الغائب يتطلّب اتخاذ خطوات أشدّ عنفاً، تتمثّل بإضرام النار والتشويه والاقتلاع إن احتاج الأمر. العرض غير قائم، وربّما لن يأتي. لسنا ننتظر شيئاً مثلما يفعل بطلي صاموئيل بيكيت ببلاهة، ولا كائن واحد، ولا حتى هبوط نور مدوٍّ من السماء. هذا ما استنتجه باكراً الفنانون الماكرون والكارهون، كارهو الملل أوّلاً، كارهو مونوتونيّة العرض، مَن ضاقوا ذرعاً بعالم لا يُحرّك ساكناً، ما عدا بثّ الضجيج الأجوف.
( تصميم: فرنسوا الدويهي)

الفنان الفرنسي المشاكس بيار بينونسيلي (1929 - 2021) عرِف أن العرض الذي يركن إلى الاطمئنان الأيقوني يحتاج إلى حركة ما: التدمير مثلاً، قطعه إلى نصفين بحركة مأسوية تصنع ذروته، كما حينما قام بتكسير نسخة من «نافورة» (1917) الفنان الفرنسي مارسيل دوشان (1887 - 1968). ولأن دوشان قام بتحويل المرحاض إلى نافورة، وقرّر تكرار عمله الفني هذا بنسخ عدّة، قرّر بينونسيلي بدوره حمل مطرقته وتكسير القطعة الفنية مجدّداً أثناء عرضها في «مركز بومبيدو» في باريس عام 2004، بعدما كان قد أردى بالمطرقة نسخة أخرى من العمل عام 1993، وبالَ عليها حينها، في محاولة لإعادة المرحاض إلى وظيفته ومعناه الأوّلين. والمفارقة الهازئة التي يقوم عليها هذا التدخّل الفني هي أن بينونسيلي اعتبر نفسه من أتباع الفنان الفرنسي الدادائي مارسيل دوشان، الذي دعا يوماً إلى استخدام لوحات الفنان الكلاسيكي رابرانت كألواح لكيّ الثياب، ما يُضمِر رغبة بإتلافها وإذابة طبقاتها اللونية.
كان التدمير ملهاة بينونسيلي المفضّلة. في إحدى ليالي عيد الميلاد، ارتدى الفنان الضخم ثياب بابا نويل وبدأ بتحطيم الألعاب وتكسيرها أمام أعين الأطفال في أحد المراكز التجاريّة في فرنسا. قلَبَ لهم العرض وخطّه السردي المٌتوقّع والمطمئن، فبكى الأطفال بدلاً من أن يضحكوا (وهو التعبير الوحيد المُتوقّع منهم في الأعياد والاحتفالات)، وكان ذلك بمثابة صفعة وجّهها الفنان إليهم باكراً، كي يستفيقوا فلا ينساقوا لاحقاً إلى الطابع الاستهلاكي الرأسمالي الذي اقترن بعيد الميلاد.
حين ينتفي العرض أو الاستعراض، أو يتحوّل إلى حدث يدعو إلى التثاؤب فحسب، من دون أن يُفضي إلى النوم، تقع مهمّة إيقاظه عندها على عاتق المتلقّي. ابتعِدوا عن وجع الرأس، سيقولون لكم، مربّتين على أكتافكم وهم لا يعلمون أن الوجع ينخر بالعظام والأطراف وفي القصبة الهوائيّة لدى أي محاولة لاستنشاق الهواء. لن يدعوكم أحد إلى إضرام الوقت حين لا ينقضي، وأن تقتلعوا التذمّر من الحنجرة والوجع من جذره كما حين فعل بينونسيلي ذات مرّة، فاقتطع شقفة لحم من إصبع يده كاحتجاج سياسي، ما جعله الفنان الأوّل الذي يعرِض قطعة من جسده في المتحف.