لرائحة البارود قدرة مهيبة على اختزال سيرة القرن العشرين وعلى تمثيل فظاعته. إشعال عود ثقاب كفيلٌ بالنسبة إلى البعض ليثير القشعريرة، ذلك أن رائحة الكبريت تومض بأهوال الحطام وتعيد ذكريات الجثث المتعفّنة في القبور المفتوحة. للأوضاع المعاصرة هذه، رائحتها الخاصة. أنف فيتالي سيديوك يعلم رائحة هذا العصر جيداً. ففي 28 سبتمبر من عام 2016، استطاع الصحافي الأوكراني المهووس بالمشاهير، تجاوز الحشود واقتحام المنطقة المخصّصة لعارضة الأزياء كيم كارداشيان بعد خروجها من صالة عرض الأزياء في باريس، ليقحم أنفه ويحشره في مؤخّرتها: «تنشَّق، تنشَّق، تنشَّق هذه المؤخّرة». قد تبدو الحادثة للوهلة الأولى أشبه بمزحة سمجة غرضها الإضحاك حتى القهقهة، أو إحالة نزقة تعبّر عن هيام صاحبها، أو في أحسن الأحوال، قد تخال أن سيديوك مجرد مختلّ، غير مؤهل للمشي على الرصيف وبحاجةٍ ماسة إلى كنبة سيغموند فرويد في أسرع ما يمكن. لكن إن شاهدت المقطع الذي وثّق فعلته على يوتيوب، فستقرأ أن أمنية نصف سكان هذا الكوكب، تمنّت أن تكون مكانه. «هواء، هواء، نريد هواءً». بيد أن الرغبة تحجب نفسها في اللغة وتأخذ شكل الطلسم؛ الهواء بما هو المبتدأ في هذا الوجود وفاعله كما نظّر له الإغريق، يوازي الليبيدو كعلّة هذه الحياة ومحرّكها كما نظّر له فرويد. ليس الهواء ما يريدونه إنما لذة التحسس، هذا ما عنوه.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

لم يصِف سيديوك ما شمّه. بما أن الخطوة التي قام بها تُعتبر، بحدّ ذاتها، خيالية، ارتأى على الأرجح أن يترك فسحة فارغة للخيال، فشغله بحاسة الشمّ. من شهيق سيديوك النابع من الخلف، يولد السؤال بدوره من الخلف. ما هو الأقل سوءاً، أن تتخيّل رائحة أم أن تعيش في عالم تحكمه مؤخّرة كيم كارداشيان؟ في الماضي القريب، لم يكن أحد يثق بأنفه. كان التنفس يهدد بموت قريب الحدوث، لأن فيروساً يعشعش في الهواء ينتظر رئتيك أن تفتح ليبخّ سمّه ويرديك قتيلاً. ليس للفيروس رائحة، ولم يتحمّس أحد لتخيّلها. تكفي مرارة مذاقه وطعم المخاط في الحلق. لم يصف سيديوك ما شمّه، ولو فعل لأعاد إحياء الرواية الفينومينولوجية، لكنه، هو العارف برائحة هذا العصر، مهّد لنا معرفته بالعين، في لقطة رأيناه فيها يزحف وهو في الخلف.
إذا جاءت لوحة آندي وارهول «حساء الكامبل» كإشارة باكرة على تفشي السلعة وتبوّؤ الصنمية فتسريعاً لـ"نهاية التاريخ"، فقد أكد لنا فيتالي سيديوك ما ظنناه افتراضياً، أي أن مؤخّرة كيم كارداشيان هي تمثيل إلى حد المطابقة لصورة هذا العصر وملمحه.
ولأن الدلالة متشعّبة ولا يمكن حصرها، فسنأخذ منها ما يعنينا وما نعني به: إن المؤخّرة ليست عضواً من البدن فحسب، بل تعني أيضاً، نهاية الشيء من الخلف، أو القسم الخلفي، أي جزءاً بعيداً عن المقدمة، فيما المقدمة ليست الصدر مثلاً ولا حصراً: إنها ومضة متجدّدة في الحاضر، هي الآن، هي لحظة وصولك إلى هنا بينما تقرأ هذا المقال إن كنت تقرؤه. على هذا النحو، إن الكلام عن صورة العصر التي تمثلها مؤخّرة كيم كارداشيان يبعد عن الإيروتيكي أو الجنسي، أي يتجاوز موضوع الانجذاب والإغراء أو الهوس بمؤخّرة ضخمة هلامية باتت العلامة الحصرية للقرن وسلطته، وتفضي أن تكون مجازاً يرمز إلى الأوضاع المعاصرة بشكلها الفاقع. فما تجرّه كيم كارداشيان وراءها هو بالضخامة نفسها والمبالغة عينها، ما نجرّه معنا، في تراكمات صلبة تكتّلت واستقرت على الأكتاف حتى صار المشي إلى الأمام صعباً.
كما أن التحديق إلى حدّ الهوس في المؤخّرة لا يعني سوى الهوس بالمؤخّرة. قد يفرض هذا الهوس تصويب النظر دائماً نحو الخلف، والالتفات المتكرر إلى الوراء، ما يسهّل الاصطدام بأقرب عَمودٍ أو حائط. لكن ألا تجري حركة تاريخنا بهذا الشكل؟ وماذا تسمّي هذا النزوع الملحّ نحو الماضي حتى ولو كان محشواً بالسيليكون، ها؟
والحال أن هذه المؤخّرة، بما هي رمز إلى أحوال عصرنا، قد لامست اللسان ونقلت العدوى إلى الخطاب. يقول قائل: "لقد قلت لك ذلك سابقاً" ويعني أنه قال ما قاله في السابق، أي أن قوله مسوّغ سلفاً، وكأنّ في قوله السابق استشرافاً لما هو قادم، وتأكيداً مسبقاً عليه. فالقائل يرى أنه دوماً على حق لأن وقاره يعادل حجم ما تجرّه كيم كارداشيان وراءَها. يتربّص الناظر في المؤخّرة ويصبّ جام هوسه في كواليس الماضي، بغية إعادة إحياء ما مضى، ما فات، أي ما ذهب مع الريح، ونيّته إفساح المجال للتكرار لكي يعاود، لأن في التكرار ألفة، وفي الألفة ملاذ، لكن رياحه لا رائحة لها والحائط دائماً قريب.
لم تعد صناعة أعواد الثقاب رائجة. ما بقي اليوم من عود الكبريت هو شكله النحيل، الرفيع، كخصر كيم كارداشيان الذي يؤخذ كقدوة. ظهرت كيم كارداشيان في عرض«Met Gala» عام 2021 حيث كانت رائحة الموت لا تزال تفوح من العالم جراء جائحة كورونا. ارتدت كيم كارداشيان فستاناً أشبه بمشلح أسود حالك، حجبها بما في ذلك أنفها. كانت كيم كارداشيان مثل الشبح الذي لا يحتاج إلى التنفس، أو مثل الذاهب إلى صالة عزاء. ما حاجة الأنف أصلاً؟ لا رائحة لهذا العصر وحاسّة الشم انتزعت. أما عزاء كيم كارداشيان للعالم، فما هو سوى عزاء فينا. ما زال لدينا القليل من الوقت، فلنتنفّس الصعداء.