بنظرة محدّقة في الكاميرا أثناء بهلوانيات الاستعراض، وبابتسامة كاملة الدسم، لا نعلم إن كانت دلالة على الاسترخاء أو أن المُبتسم يمسك عليك فضيحة ما، يصنع الشيف التركي الشهير بوراك (محمد بوراك أوزدمير) أطباقه العملاقة التي قد تكفي لشخصين برجوازيين على الأقلّ يأكلان منها ربعها ويُرمى الباقي منها أو ينهيه الحاضرون. طبخه ترافقه خلفية موسيقية بهدف الترويج في فيديو يُظهر فيه الشيف حِرفيّته الفنّية في الطبخ وتقديم الطعام، إذ يضع نفسه بهذه اللفتة في مصاف المشاهير قارعاً بذلك طنجرة العالمية. ولكن، ما الذي يفعله بوراك بالضبط؟ وما الذي تشير إليه شهرته هذه، إن حاولنا تفكيك مظاهرها؟ وهل بوراك يخلط عمداً بين الطهو وأعمال السيرك؟ أي بين المهنة والاستعراض، نعني ما هي الوصفة المتّبعة لطبق العالمية هذا حالياً؟منذ عامين تقريباً، زار الشيف بوراك بيروت، بمبادرة منه لإبداء التأثر بما حل في مرفأ العاصمة جرّاء انفجار آب الذي خلّف دماراً هائلاً وخسارات لا تُحصى. ظهرت صورة مقطعيّة لوجهه عابساً، بعكس صورته المتداول أي بابتسامته الثابتة أثناء العمل الاستعراضي، في رسالة مفادها الأسى ومشاركة الحزن على ما يبدو. ومن الجدير ذكره أن بوراك كان قد زار لبنان قبلها بوقت طويل، طارقاً باب العديد من المشاهير الذين أبدوا سعادة غامرة عبّروا عنها بنشرهم الصور والفيديوات معه، وكان الظن أنه سيفتتح مطعماً له في البلد، وقد كانت تلك الزيارة القديمة ترويجية غالباً على كل حال. ولكن ألا ينطبق الأمر نفسه على زيارته الجديدة؟ ما الفارق بينهما فعلياً؟ هل في أماكن معينة يتطلب الترويج الابتسام بينما يعمل في أماكن أخرى بالعبوس؟

(رسم: فرانسوا الدويهي)

من الواضح أن هناك قاعدة تفيد بأن السعي إلى الرواج بطريقة مضادة للرائج نفسه، شيء محسوم وفعّال، فإن اشتهر بابتسامته الخرقاء تلك، فحتماً سيتكفّل عبوس واحد بين هذه الابتسامات بإضفاء نفس التأثير بها. بهذا المعنى هي ابتسامة مقلوبة وليست عبوساً. المهم؛ تظهر الدراسات الأنثروبولوجية أن الطعام بما يشتمل عليه من إعداد وطبخ وتقديم، يكشف عن مواد اجتماعية قبل كشفه عن قيم غذائية بيولوجية وسعرات حرارية. فالطعام يكشف الانتقال الإنسانيّ من الطبيعة (الطبيعي الخام) إلى الثقافة (الثقافي المركّب). طُرح هذا التناولُ في أعمال البنيويين واستمرَّت مع غيرهم، ونجد أن هذا ما عمل عليه الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس في فكرة المثلث المطبخي، وكذلك الأمر في النقد الثقافي والاجتماعي الذي قدّمه الفرنسي رولان بارت وغيرهما.
والحال هو، أن مطبخ مجتمع ما يكشف عن الأنساق الثقافية في هذا المجتمع نفسه، ولكن مع عولمة الطعام، بعيداً هذه المرة عن صيغ الوجبات السريعة التي ملأت كل مكان فعلياً، فإن ما نكتشف دخوله في النسق، ليس الطعام، نيئاً كان أم مطبوخاً أم متعفّناً، بل حضور الطاهي نفسه، وعمليّة «تغلّبه» على كميّات الطعام الضخمة، في القُدور والطناجر والأفران.
ترى على الشاشة الشيف المستعرض، حاملاً قِدراً ضخمة أو طبق كنافة هائلاً، ليقلبه أو ليقوم بإحدى خطوات الإعداد. إن الأداة (طنجرة، مقلاة، قدر، طبق...) هي الوسيط الثقافي بين الشيف والطعام، وإن اختلال العلاقة من حيث الكيفية أو الكميّة يجعل العمل المطبخيّ بعيداً عن الطبيعة والثقافة في آنٍ معاً، ليحدث حينها ما نسمّيه «بالحادث المؤسف». وهذا بالضبط ما حدث مع الشيف بوراك في أحد الفيديوات التي اشتهرت سابقاً: «شاهد لحظة «فشل» الشيف التركي بوراك في قلب طنجرة كبيرة من الطعام أمام مطعمه بدبي»، شاهد يا عزيزي، شاهد الإغراق الثقافي المُستَعرِضَ. ولكن لحظة، أليس الاستعراض في هذه الحال هو الجزء اليسير من الثقافيّ، وقد نُفِخَ إلى حدّه الأقصى، ما يجعل «الطبيعيّ» والذي هو قانون الجاذبيّة هنا المستجيب لثقل المادّة (طعام في الطنجرة)، يجعله طاغياً على الثقافيّ الذي تبيّنت خفّته؟
إنها ليست مسألة ضعف وعجز إنساني إن أراد أحد الإنسانويين التبجّحَ، مع احترامنا له. ففي الفيديو المذكور آنفاً، يتبيّن أن الشيف محاط على الأقل بستة أشخاص استجمعوا قواهم لحمل الطنجرة بعد تعثّرهما. هي فحوى الاستعراض نفسه الذي يهدد الثقافي عبر تسطيحه وتعميمه. من هنا لا يوجد فارق كبيرٌ بهذه الرؤية بين: الشيف بوراك ــ توقعه طنجرة هائلةــ ودب بنيّ يهجم بجنون على خليةٍ خطرة من النحل البرّي لأخذ قضمة عسل والفرار ملاحقاً باللسعات.
إن كان استعمال القدر يدُلّ على التحضّر على ما يشير الأنثروبولوجيون، فلا يعني تضخيم القدر الأمر نفسه، بل هو مجرّد نظر إلى الطعام على أنه مجرّد منتج «صناعي» يُصنع بأي كميّة نشاء لإثبات الثراء البرجوازي، خصوصاً في بلد البرج الأضخم في العالم، وابتعادٌ عن الثقافة بما هي العلاقة الإنسانية مع الطعام. ومع إدخال الاستعراض في الوصفة، تطفو على السطح الرغبة الهمجيّة في الشهرة، وهو ربما أبعد مكاناً عن التحضّر.
إن الكميّة الضخمة من الطعام تجعل من الوسيط الثقافي (طنجرة، مقلاة...) أداة صعبة على الاستعمال، ما يؤدي إلى الحادث المؤسف مجدّداً مرة تلو أخرى. نقول إنه من الصعب في النهاية أن تموت بانقلاب طبق طعام على وجهك. وكذلك الأمر فمن العار الاجتماعي عليك أن تخرج من المطعم بعد العرض اللذيذ أو رؤية ابتسامة صاحب المطعم أن تقول مثلاً: الطعام لم يكن جيّداً، هل ستجرؤ على هذا؟ مثل ذلك حين تتم دعوة مجتمع لا يؤمن بالنبيذ كأسطورة بالفاسد والعاجز والمريض، كما أشار رولان بارت في نقده لمكانة النبيذ في المجتمع الفرنسي في كتابه «أسطوريّات». أليس كل استعراض ومنها الاستعراض البوراكي، نوعاً من الأسطرة، أي هو أسطورة في مخيلة الناس؟
يتوجّه هذا المطبخ كذلك إلى أصحاب الشهرة ليشارك بعضهم بعضاً الظهور الاستعراضي، أي أنه يقوم على المستعرِضين أمثاله أيضاً. هو مطبخ كما يقول بارت في مقالته «المطبخ الزخرفي» يمكن استهلاك أطباقه بمجرد النظر إليها فحسب، والانبهار بضخامتها وكيفيّة التعامل معها. وهنا نضيف: بوضع لايك على فيديواتها الترويجية، والحلم السعيد بزيارتها ودفع مبلغ ليظهر الشيف بوراك معك في الصورة.
إن مطبخ بوراك، وغيره الكثير طبعاً هي مجرد نماذج عن المطبخ الزخرفيّ الذي يحمل طابع العجائبية والسحريّة، الذي يكشف بدوره عن توجه إلى الفئات ذات الدخل المحدود. فالطبق فيه غير واقعي نتيجة تضخيمه بهذا الشكل. إن الاستهداف هنا يحتاج إلى طرفين: المشاهير والناس، ثم تأتي الإضافة الشخصية للشيف في عالم الاستعراض وهي الابتسامة التي أُخرِجَت من حيّز الصورة الفوتوغرافية والنظر مباشرة إلى فوّهة الكاميرا والثبات على ذلك إلى المحافظة على هذا الثبات بالابتسام في حيّز الفيديو ثم الإيهام بالعمل ضمن هذا الثبات. كأنك به يقول: حدّق في عملي، لا بُدّ أن تحدّق، كُل بعينيك أو أنّ ابتسامتي ستلاحقك في الكوابيس، وستقضي عليك.