كثيراً ما تكاد الحياة تبلغ الزمن الصفر، والمكان الصفر، ويمكن القول إلى جانب ذلك، إن إنسانها الحيّ يدخل حالة الحرمان الحسّي ويتلمّس ذلك النقص في المعنى، وقد يكون حاداً أو كما قال بيكيت: «لا شيء يحدث، لا أحد يجيء، ولا شيء يمكن فعله».ثمّة أساليب كثيرة يستخدمها الإنسان لجعل أمرٍ ما محتملاً أكثر، مرةً بإرادةٍ منه، ومرةً يفرضها عقله هرباً من الملل الذي يصير فجأةً جوهر الحياة ومركزها، يغلّفها بغلاف البلادة و«بالتوق الدفين من دون أيّ هدفٍ معيّن» كما يقول شوبنهاور. على الطرف الآخر، ثمّة خوفٌ قاتل سوف يكون حاضراً، هو الخوف من الملل الذي يداهم الحياة ويخنقها ويحاصرها: الثيسوفوبيا (Kathisophobia Thaasophobia ). الخوف من الجلوس دون فعل أيّ شيء، كما تشير الكلمة اليونانية : Kathiso الخوف من الفراغ الذي يرافق هذا كلّه، من انعدام الفعل، والاستسلام التام للنقص الذي يخدش المعنى. إنه الخوف لا من الملل وحسب، بل من اقتحامه الحياة والبقاء فيها، ومن التغيّرات الجذرية التي يُحدِثها في إنسانها، إذ يمكن أن يكون «أشد شراً من الشيطان» كما نرى في فيلم The Lighthouse للمخرج روبرت إيغرز (2019) حيث يصير حارس المنارة ومعاونه رجلين شريرين فتّاكين بفعل الحياة الرتيبة والملل القاتل الذي عاشاه، ما يتقاطع مع قول الفيلسوف كيركيغارد إن الملل هو «جذر كل الشرور»، إذ يمكن لإنسانٍ أن يصعق نفسه خلال خمس عشرة دقيقة مئتي مرة بصاعقٍ كهربائي، فقط كي لا يصيبه ذاك الشيطان الفتّاك، أو الضباب الصامت كما يسمّيه هايدغر: الملل.

(رسم: فرانسوا الدويهي)

إنه أداء نفس الأعمال الرتيبة، من دون فعل أيّ شيء جديد، ولا رؤية أي شيء جديد، ما يصيب بالغثيان في النهاية، وهو آفة المجتمع المعاصر كما يشيع اليوم، الآفة التي «تثبط العزيمة ويقتل الإبداع»، وفقاً لموظفٍ فرنسي يشتكي من وظيفته المملّة ويقاضي رئيسه في العمل فيُحكَم لصالحه.
إنّ المُمِل في حياتنا العادية هو نفسها فكرة أنها عادية. لا يوجد ما هو مثير فيها، وليس ثمّة إنجاز. إنّ المُمِل فيها هو شعورنا الدائم والمرعب بأنها إذا ما وجدت طريقها لتصير حكايةً فلن تكون أكثر من حكاية بأحداث تتكرر المرة تلو الأخرى فيما نقف متفرجين فيها. إنه أداء الأفعال الرتيبة نفسها. لنتخيّل أنّ هذه الأفعال بصورتها الكبرى تتلخص بالمشي. المشي بثلاث حالات كما يصيغ وحش الاسفنكس sphinx الإغريقي لغزه: ما هو الكائن الذي يمشي أحياناً على قدمين، وأحياناً أخرى على أربع، وأحياناً ثالثة على ثلاث؟
إنه لغز دورتنا المملّة الحزينة منذ الطفولة حتى الشيخوخة. يحل أوديب اللغز هكذا: هذا الكائن هو الإنسان، فهو حين يكون طفلاً فإنه يمشي على أربع، ولما يشتد عوده يمشي على قدمين، وحين يصبح شيخاً فإنه يمشي على ثلاث.
إنه المشي إذاً، من ثم يموت الإنسان بعد أن ينهي هذه الدورة، وتصير حياته حكاية مملّة. ليس غريباً إذاً في بعض الأوقات حين تحاصرنا الثيسوفوبيا أن ننهض للمشي بلا وجهة، في الصالون أو في الشارع أو في أي مكان. تلك الضربة اليائسة كي لا نستسلم للملل تشبه الصعقة الكهربائية، وهي متّصلة بالدورة المملّة إيّاها: المشي على أربع، ثم على اثنتين، ثم على ثلاث. وبين تلك المراحل الثلاث تأتي الحياة العادية الرتيبة التي اشتكى منها الفيلسوف الروماني سينيكا، وأصابته بالغثيان.
يورِد بيتر توهي في كتابه «الضجر، تاريخ حي» (2011)، أنواع الملل. الأول هو البسيط الذي يحدث لنا مع المواقف المتوقعة مسبقاً والتي لا يمكن الهروب أو الفكاك منها، مثل المناسبات الاجتماعية الطويلة، وحفلات الزفاف، والأعياد. هذا النوع بسيط لأنه مربوط بفترة زمنية ستنتهي سريعاً، وله وجهٌ بمثابة التكثيف له، هو الملل المزمن، إذ يتم تكرار تجربة معينة حتى الإشباع، مثل أكل صنف معين من الطعام، أو الاستماع لمقطوعة موسيقية مرات ومرات، ما يولد الملل ثم الشعور بالغثيان. أما النوع الثاني، فهو الملل الوجودي، وهذا النوع الذي يتناوله الفلاسفة غالباً ويربطونه بمسائل وجودية كبيرة. الملل الوجودي إذاً: نقصٌ في المعنى. شرخٌ يتوسّع في الدورة المملّة الحزينة لمن يتسنى له أن يتأملها. وبين تفاصيل الحياة اليومية الرتيبة، ثمة لفظة أكثر حداثة هي: الملل المصغّر. تشير إلى لحظات الملل التي تصيب الإنسان بين أحداث يومه البسيطة، مثل الوقوف في طابور، أو انتظار شيء ما.
إن الملل أو «أعتى الوحوش» كما يصفه بودلير، يمكن أن يصب في الجانب السياسي أيضاً من الحياة، ما يمكن أن يصنع كارثة. يكمن الأثر السياسي للملل في إحدى الفرضيات المطروحة داخل كتاب «خارج جمجمتي: سيكولوجيا الملل» (2020) لعالمَي النفس جيمس دانكيرت وجون إستوود. العالمان يرجعان سبب تصويت الكثير من الأشخاص لدونالد ترامب إلى أن الناخبين كانوا يشعرون بالملل من عالمٍ لم يكن يحدث فيه أي شيء يثير الاهتمام، فلماذا إذاً لا يصوتون لرئيس من شأنه على الأقل أن يكون مسلياً؟ لكن هذه المسكّنات الباحثة عن الإثارة، ترجع هي نفسها لتكون مصدراً للملل، كما يقول شوبنهاور: «هذا هو المصدر الحقيقي للملل؛ اللهاث المستمر خلف الإثارة، من أجل الحصول على ذريعة لإعطاء العقل شيئاً يشغله».
لم يجد بيتر توهي أثراً لكلمة boredom في القاموس الإنكليزي «أوكسفورد» قبل منتصف القرن الثامن عشر، إنما دخل الفعل «مَلّ» في الفترة التي ظهرت فيها فلسفة «موت الإله»، وأشارت إلى اليأس وفقدان المعنى الوجودي في صراع ومواجهة الميتافيزيقيا مع العدم داخل الإنسان، ثم دخلت عدة أعمال أدبية، كما عند فلوبير الذي يقول: «أليس إيجاد المعنى (عدم الملل) هو أحد أهم أهداف حياتنا على الإطلاق؟».
أما بمعناها الحالي، فقد دخلت الكلمة boredom في كتاب تشارلز ديكنز «المنزل الكئيب»: امرأة من طبقة اجتماعية رفيعة، عاطلة عن العمل وتعيش في زمن عصر الثورة الصناعية، وتمضي كل أحداث الرواية وهي تشتكي من شعورها بالملل، رغم أن في حوزتها الكثير من الخيارات لكنها لا تقدر على فعل شيء. لقد كانت واقعة في «شلل الاختيار» الذي نعاني منه اليوم في العصر الرقمي، حيث يقوم عالم الوسائط الذي نعيش فيه على تصنيع مللٍ جماعي، وبائي، لنتورّط أكثر في سوق الوسائط هذا.
تناول الملل بعد ذلك الكاتب الروسي أنطون تشيخوف في أعماله، المسرحية منها على وجه الخصوص، وكانت له فلسفة خاصة، هي فلسفة العادي واليومي، أدرجها في مسرحياته، فقد ربط الملل بقضايا أبطال قصصه وأفعالهم غير المتوقّعة. في مسرحيته «الخال فانيا» تصرخ يلينا أندرييفنا: «أكاد أموت من الملل، ولا أعرف ماذا عليّ أن أفعل». وغاية تشيخوف من مسرحياته هذه، كما يذكر في رسالة كتبها سنة 1902 إلى ألكساندر تيخونوف، هي «كل ما كنت أهدف إليه هو أن أقول للناس: انظروا إلى أنفسكم وتأمّلوا الحياة التي تعيشونها ستجدونها حياة كئيبة مملّة سيئة». في أعماله نرى الحياة كما هي، اعتيادية روتينية رتيبة «وسط هذا الملل الفظيع، عندما تهوِّم بدلاً من الناس بقعٌ ما رمادية، ولا يسمع غير العبارات المبتذلة، ولا يعرف الناس شيئاً سوى «أن يأكلوا ويشربوا ويناموا...» هكذا تصيح إحدى شخصياته. وفي مسرحية أخرى تقول إحدى شخصياته (تريبليف): «كم تكلمت عن الأشياء الجديدة، والآن أشعر بأنّي شخصياً أنحدر شيئاً فشيئاً إلى الروتين».
تؤكد جميع الشخصيات التي جاءت في مسرحياته الأربع الكبرى على ضرورة العمل، وعدم الاستسلام للعطالة التي يفرضها الملل، حتى يبدو أن العلاقات بين الشخصيات قائمة بسبب الملل، أي أن الملل هو علّتها الأولى. ويذهب بالملل الى حد توليده للعاطفة أو إنتاجه لها، بل باعتباره أيضاً دافعاً للبحث عن الإثارة هرباً من العادي والمألوف. لذلك نجد أنه لا يحدث شيء في مسرحيات تشيخوف، إلا أنه في الواقع تحدث أشياء كثيرة.
بعيداً عن المسرح، أدرج تشيخوف فلسفته في إحدى رواياته القصيرة بعنوان «حكاية مملّة». العمل منجز منذ حوالي قرنين من الزمن ولا يزال يتكرر كما لو أنه «الوجه الحقيقي للحياة». ينتظر الدكتور الجامعي نيكولاي ستيبانفتش أن يموت، وخلال انتظاره تملّ روحه. انتظاره يشبه انتظار غودو في مسرحية صامويل بيكيت في افتقار بطليها إلى المعنى. إنه الملل الوجودي، إذ يصرّح نيكولاي أخيراً لكاتيا حينما تسأله عن الهدف من الحياة ومعناها، بقوله: لا أعرف، لا أعرف!
نُقِشَت رسالة على صخرة تعود إلى أواخر القرن الثالث في مدينة بنيفنتوم الرومانية تشهد لفضل شخص يُدعى تانونيوس مارسيلونس في مساعدة سكان المدينة في التخلص من الملل. يقول النقش: «بسبب الأعمال الصالحة التي قام بها تانونيوس مارسيلونس، الرجل صاحب السلطات القنصلية والراعي الأكثر استحقاقاً، حيث أنقذ سكان بنفينتوم من المَلَل الذي لا ينتهي، فإن الشعب بأكمله (في هذه المدينة) يحكم أن هذا الأمر يجب تسجيله في هذا النقش».

بقي هذا النقش ليخبرنا أن الملل وباءٌ قديم، عمره عمر التاريخ، والتخلص منه يحتاج إلى معجزة أو إلى مخلّص على الأقلّ.