ما إن تُطرح «القضايا الكُبرى» للنقاش على الطاولة حتّى تُستثار المُخيّلة مباشرةً بعديدٍ من الصور: محلّل سياسي ببدلة رسميّة، أو اجتماع رؤساء دول، كِتابٌ من ألف صفحة أو بحث يطفح بمصطلحات كبيرة تحتاجُ مُعجماً إلى جانبه ليُصبح قابلاً للفهم. ولا ريب أن المؤثّر في الحركة السياسيّة معروف، فلا تحتاج إلى الإشارة إليه قائلاً: «ها هو، انظروا إلى المُتحكّم في رغيف خبزكم».مع ذلك، فلطالما كنت تشاهد التلفاز وتقلّب في محطّاته بملل، وتشعرُ أن حاجزاً ضخماً، مهيباً، يفصلك عن ذاك المُتحدّث باسم جراحك اللامرئيّة. كتلة من الغضب الزائف والتعاطف المُفتعل، ومهما صال وجال وتلاعب بالكلمات المُنمّقة ليتحدّث عن «قضايا الناس» لا تراهُ يُربّت على كتفهم، لا يُسكن آلامهم بل على العكس يتسبّب بها، سواء كان صاحب قرار أو مُجرّد مُتحدّث، ببلاهة أو خُبث، داعماً لقراراتٍ كانت فأساً جرّح بكرامتك.

من سلسلة «تصحيح اللون - المخيّمات» (2007 - 2010) للفنان الفلسطيني يزن خليلي

ثمّة هوّة سحيقة بين الشارع والمُتحدّثين باسمه. شرخ نوعي على المستوى الطبقي والهويّاتي بين ما هو للعامة وما تمتلكه النُخب من ثروة وقوة ومكانة، ما يضمن لأيّ «كلام فاضٍ» الهيمنة، بلهجة نُخبويّة ومترفّعة تراهُ يُملي على «العامة» أفكاره أو الطريقة التي يراها من موقعه صالحة لردّ الفعل أو القول، «على الناس أن» و«على الناس ألا». يُعيد ويُكرر ويُملي بلهجة العارف بالحقائق، بلغة مهيبة، فصيحة، يستخدمها غالباً للتباهي أو لتزييف وعي الناس كأنهُ يرقص على جثث ضحايا المعاناة الحقيقية من الأعلى، من مركزه أو سلطته أو درجة تحصيله العلمي أو أياً كان. فلطالما كانت الحقائق محشورة هُناك، بعيداً عنه وعمّا يُمثّله، في تلك التفاصيل الصغيرة التي تُشكّل يوم هذا وذاك بمعزل عن هموم تلك الطبقة.
لكن هذا الخطاب وجد، رغم تماديه، من يستبدله بخطاب واقعي. حمل «الراب» مثلاً على عاتقه مواجهة هذه البُنى المركّبة والعمل على تهديم ما تمّ تأسيسه على أنقاض الوقائع من أجل الصعود ببُنى جديدة أقرب إلى الحقيقة، وقد لقيَ استحساناً كبيراً في عالمنا العربي، خصوصاً عند فئة الشباب التي تعلم نبض الشارع، وتعرف جوهر الواقع. أتى بفأسٍ يفضح ويكسّر القشرة النخبويّة الصلبة التي تشكّلت فوق ما جهد هؤلاء لإخفائه بكلّ الطرق الممكنة ولعقود من الزمن. وقد برع «شُعراء الأزقّة» في تحويل السائد اليومي إلى أغنية بلا عمليات تجميل أو تشفير لما يُمكن أن يخدش ذوق النُخب الرفيع لترتطم «حقائق العالم السفلي» برؤوسهم كما هي، كما تخرج من اللسان في لحظات اليأس والتسليم. أي من دون كبح الانفعالات ومن دون ترويض اللغة وبلا أي اعتبارات لذائقة من هم في خارج هذا التلوّث الحقيقي، بلغة بسيطة غالباً، تخاطب الجميع، وسهلة الفهم.
لسنا هُنا لمناقشة الموسيقى بذاتها، بل لتسليط الضوء على جانب آخر وهو الحقيقة التي تتحوّل إلى أغنية «راب»، ونجرؤ على القول: حقيقةٌ، بالرغم من نسبيّتها. هي تلك الكلمات التي تخرج كلّ يوم من عتم الأزقّة، من تحت شبكات الأشرطة المُمتدّة من بيت إلى بيت، ومن أرصفة الانتظار. فدائماً كان الشارع مختبراً لاختراع البدائل، وههنا يعطي فسحة لمن هُم «من تحت» بأن يتوغلوا بالقضايا الكُبرى، كي لا يبقون على هامش الحركة السياسيّة والاجتماعية ولكي يتصدوا إلى الخطاب المزيّف والمقدم بفصاحة، بل نستطيع التأكيد بأنهم، وعند فئة الشباب خصوصاً، أصبحوا مؤثرين في الرأي العام حيث يقارعون نُخبويّة ثقيلة الظل حتى تتفتّت كلوحٍ من زجاج.
تتعدد الأمثلة من شرق العالم العربي إلى مغربه، ففي فلسطين واجه الشارع الفلسطيني الاحتلال الإسرائيلي بهذا النوع من الفن، إلى جانب كلّ أشكال المقاومة الأخرى، وما «ضبّور» و«شبّ جديد» اللذين تخطّت أغنيتهما الأخيرتين «إنّ أنّ» الخمسة عشر مليون مشاهدة في غضون أيّام فقط إلّا خير مثال على ذلك، حيث وجّهوا رسائل صمود على طريقتهم من «العالم السفلي» بوجه غطرسة الاحتلال وجرائمه، تعبيراً عن صلابة الشعب الفلسطيني رغم كلّ الاعتداءات خصوصاً الأخيرة على حيّ الشيخ جرّاح. في لبنان المُفرط في أزماته، كان هذا النوع من الفنّ ملاذاً يحتمي به أولئك الذين خرجوا من صلب المعاناة، أبناء القُرى البعيدة، المُهمّشة، حيث لا تصل يد الدولة إليهم إلّا في مناسباتٍ تُذكّرهم فيها بغيابها لا حضورها. ففي ظلّ غياب الإنماء والوظائف وتردّي البُنى التحتية، برزت فرقة «الطفّار» لتصدّر معاناتها إلينا، بنسيج مُحكم من الكلمات والمعاني فبتنا بذلك اليوم نعرف ما كنّا نجهله سابقاً، وما لم يكن يُحكى لنا سابقاً.
هذه أمثلة عن «القضايا الكُبرى» تُطرح للنقاش من قبل أهلها على ناصية الشارع ممّن يعرفونها ويتلوّثون بقذارتها، لا تحتاج إلى مصطلحات كبيرة بل إلى صرخة بداهة، حيث تتكسّر القاعدة التي تعتبر كل استثناء شواذاً. وترفض «ما يجب أن يكون» التي تضعها معايير النخب، أولئك الذين يقولون «على الناس أن» و«على الناس ألا». «هكذا هي، سأرميها لتصدّع الجدران المشيّدة حول ما لا يُقال إلّا في الشارع» - كأنهم يقولون.
كان نيتشه يتعاطى الفلسفة قرعاً بالمطرقة، محطماً النسق المُحدّد سلفاً، كأنّهُ يقول سأرميها كما هي، ولتنزل على رأس من تنزل، ويعبّر عن ذلك بقوله: «هناك أوثان أكثر من الأشياء الواقعية في العالم: أن نطرح أسئلة قرعاً بالمطرقة، وأن يكون ما نتلقاه كإجابة عن سؤالنا، يجعل الأشياء الأكثر حرصاً على التكتّم مرغمة على النطق بصوت مسموع أمامه». على هذا النحو تأتي أغنية الراب: صدى مسموع للأشياء كما هي عليه، ببشاعتها وسوداويّتها، تشق طريقاً سريعاً يفضح المُستتر على إيقاع صوت أصحابها الذي خنقته الأزقة.