استيقظ ميرسو في تمام الساعة السابعة والربع صباحاً على انعكاس ضوء أشعة الشمس التي اخترقت غرفته. شعر بحرارةٍ في عينيه، فما لبث أن نهض من سريره بتثاقل. شرب قهوته آملاً بتفتّح مزاجه، وأشعل سيجارة، لبس ثيابه، وجرّ جثته للخروج إلى العمل. عندما وصلت يده إلى مقبض الباب، توقف، فحدّث نفسه قائلاً:«مرة أخرى سأذهب إلى العمل صاغراً، من دون نوم عميق. ما الذي سأنجزه من صندوق التعذيب هذا؟ الكثير من الناس يشعرون بمتعة الإنجاز اليومي. ينظّمون وقتهم بشكل دقيق على وقع دقّات الساعة، ينامون، ويستيقظون، ويأكلون، يعملون ليل نهار... لكن لا يعمل ليل نهار إلا آلة غبية؟»

(ميرسوا لأليكسيس ليكا - فرنسا)

تذكر ميرسو حواره مع زميله في العمل، حديثهم عن حقوق العمال، حينها وضع ميرسو فلسفته حول «ما الذي ينبغي أن يكون»، وكانت جلّ تنظيراته تتمحور حول دور الدولة في ضمانة رعاياها، وحول وظيفتها كسلطة رادعة لاستبداد الطبقة الرأسمالية. شعر عندها بضيق في صدره وأكمل: «كيف للإنسان أن يرتّب أولوياته، ويشبع رغباته بشكل متوازن، كيف له أن يختار شكل الحياة التي يريد قبل الخروج من ظلام المشيمة (مأساة الولادة)، تلك الفكرة التي صدّع سيوران رؤوسنا بها، كيف؟» كان يرى أنه بينما يقبع الإنسان داخل مصنع الفوضى والرتابة هذا، في وسعه، هو الذي يعيش على الهامش، أن يقوم بأنشطة لها قيمة سياسية، تحمل معنى. كان يعتقد أنه لو كان المجتمع منظّماً وفيه من الحكمة ما يكفي، لكانت الأنشطة تصب في مصلحة الجميع، عكس ما يجري اليوم، فحالة اليوم هي أن قلة من الناس تسخّر البقية، وتستعبدهم كأنهم حشرات. عبث! لا ضرورة لأي تنظيم! إن التنظيم في هذه الحالة، مثل جسد في وسط الحطام لكنه محافظ على لمعانه. هكذا ارتأى.
قرر ميرسو أن لا يخرج. كان يتمتم قائلاً: «سيتفوّه جاري برفقة أطفاله بالكثير من الأسئلة التافهة المملّة، عن العمل والدراسة، وبعدها سيتقيأ سؤاله التافه نفسه «لماذا لم تتزوج وتنجب أطفالاً بعد؟ يا إلهي مرة جديدة عليّ الاحتكاك بهؤلاء الذين يحشرون أنوفهم في كل شيء». علم ميرسو أنه لم يعد قادراً على أن يحيا حياة سليمة وفقاً للمعايير الاجتماعية المتفق عليها. هكذا صارت عزلته غير اختيارية. صحيح أنه استمتع بها، لكنها جاءت مأساوية، تطرق باب سديم اللامبالاة، في غرفة ذات لون باهت مثل لون سقفها.
انتظر ميرسو بعض الوقت، ثم فتح الباب، ترجّل عن السلالم بجسمه النحيل وشعره الأشعث قاصداً عمله الروتيني. في طريقه إلى العمل وجد عاشقين يتبادلان نظرات مليئة بالشغف والغواية، فتذكّر عشيقته، وتذكر فرويد «الحب هو تأويل للجنس» فكَر وابتسم ساخراً.
أكمل ميرسو سيره وهو يفكر بجدوى حياته، وجدوى أفكاره، ويتساءل عن الجدوى من أيامه ومعنى عمله. رأى فجأة، بينما كان يمشي، طائراً يسقط أرضاً، فأشاح بنظره عنه ثم قال بعد أن أخذ نفساً عميقاً: « أصبحت الأمور خليطاً من اللذاجة والدبق تكسوها السرعة. لقد أرهقت نفسي حين لم أفهم الفكرة البسيطة وراء التكيّف مع هذا الزمن. إن السرعة كشعار الرسائل السريعة، والحوارات البلهاء المضحكة في حياة يطفو عليها الملل، يجعلني أشعر بالقرف من كل شيء، من كل شيء، من الفود بلوغر الأحمق، من مهرّجي التيك توك، من هؤلاء العشاق ومن جثة هذا العصفور أيضاً».
وصل ميرسو إلى عمله أخيراً. طلب من مديره ورقة بيضاء، وكتب عليها رسالة تفيد باستقالته:
«إني أتعفن من داخلي. لقد سئمتُ هذا العالم المشوّه، وتُمزّقني فكرة أني جزء من هذا السرداب اللعين».
عاد ميرسو إلى المنزل، حجب ضوء الشمس عن غرفته، أغمض عينيه، وعاد إلى نومه. أعتقد أن السبات، هو ما ينبغي أن يكون عليه وجوده.