ليس انهيار النظام المصرفي هو الظاهرة الوحيدة والأساسية في فترة ما بعد الانهيار، بل يشمل الأمر قطاعات عدّة من أبرزها القطاع الذي كان يعتمد في تمويله على الخزينة اللبنانية بشكل أساسي وعلى اشتراكات الأجراء وأصحاب العمل أيضاً، ولم تكن الحصّة التي تدفعها الأسر من جيوبها تتجاوز ثلث الفاتورة الصحية الإجمالية. أيضاً كانت الخدمة متوافرة للجميع تقريباً عبر قنوات ووسائل بعضها نظامي والآخر زبائني الطابع. توزيع التمويل كان عبر صناديق ضامنة، أكبرها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والصناديق العسكرية، وتعاونية موظفي الدولة، وصناديق التعاضد شبه الرسمية، وكانت حصّة شركات التأمين الأصغر بينها جميعاً. هذا الأمر انقلب بكامله الآن.
المصدر: البنك الدولي، وزارة الصحة

في سنوات الأزمة توقفت الدولة عن إعداد الحسابات الوطنية الصحية، لكن البنك الدولي لديه تقديرات تشير إلى أنه في عام 2020، دفع المقيمون من جيوبهم 44.2% من مجمل قيمة الفاتورة الصحية، أي ما يعادل 1.1 مليار دولار. ففي تلك السنة بلغت قيمة النفقات الصحية 2.52 مليار دولار مقارنة مع 4.13 مليارات دولار في عام 2017. وهذا يعني أن الأزمة أصابت حجم النفقات وقنوات توزيعها. واللافت أن هذا الانخفاض مسجّل في فترة الدعم حيث أنفق مصرف لبنان، وفق معطيات مصدرها مصرف لبنان، أكثر من 1.18 مليار دولار على دعم الأدوية واستيراد المستلزمات الطبية. وفي هذه الفترة أيضاً لم يسجّل انهيار الليرة تطوّراً كبيراً؛ ففي أول كانون الثاني 2020 بلغ سعر الدولار 2100 ليرة، وفي أول كانون الثاني 2021 سجّل 8400 ليرة بحسب Lirarate.org. هذا يعني أن الأكلاف الصحية، ولا سيما في المستشفى، لم تكن قد ارتفعت كثيراً، ولا سيما أن 70% منها مرتبطة بالدولار سواء لجهة كلفة الطاقة والتجهيزات والمستلزمات الطبية وسواها.
على أي حال، إن التراجع في حجم النفقات الإجمالية على الرعاية الصحية، انعكس على حصّة الفرد السنوية من النفقات الحكومية التي كانت تبلغ 637 دولاراً في عام 2019 ثم انخفضت إلى 350 دولاراً في عام 2020. وبالمثل، ارتفعت حصّة ما يدفعه الفرد من جيبه من 265 دولاراً إلى 439 دولاراً، أي بنسبة 65%. هذا كان التأثير المباشر للأزمة في أوّلها، لكن الأمر اختلف جذرياً الآن، إذ بات الأفراد يدفعون الحصّة الأكبر من كلفة الرعاية الصحية، ولا سيما الرعاية في العيادات الطبية والرعاية في المستشفيات.
في ظل كل هذه الصناديق الضامنة، كان الإنفاق على الرعاية الصحية، حكومياً أو بإشراف حكومي. وكان النظام الصحّي قائماً على نحو 24 مستشفى حكومياً، والعديد من المستوصفات المموّلة حكومياً ببرامج رعاية متخصّصة، فضلاً عن التخطيط والتمويل كان يتم عبر وزارة الصحة التي أعطيت صلاحية منح التغطية الصحية لمن لا يملكها، بينما كان صندوق الضمان يموّل الفواتير الطبية في المستشفى وخارجها (عيادات طبية، أدوية، فحوصات) للأجراء المصرّح عنهم، والصناديق العسكرية تمنح التغطية للعاملين لديها، في المستشفى العسكري أو في مستشفيات خاصة، والأمر نفسه ينطبق على الصناديق الأخرى وأكبرها صندوق الأساتذة، ويُضاف إليهم صناديق خاصة أسّستها نقابات المهن الحرّة وأكبرها صندوق المهندسين... كل هذا النظام أصابه الانهيار. فاليوم، لا يمكن لأي من هذه الصناديق أن تقدّم الخدمات نفسها، بل هي تقدّم ما لا يتجاوز 20% في أحسن الأحوال من الخدمات السابقة بالقيمة والنوعية، علماً أن مستشفيات القطاع العام تعاني أكثر من غيرها. وبسبب ذلك، بات قسم كبير من الأسر لا يُتاح لهم الحصول على أي نوع من التغطية الصحية.
وإذا أعدنا احتساب حصّة الفرد من الفاتورة الصحية وفق تطوّرات سعر الصرف فقط، فإنها ستنخفض من 637 دولاراً إلى 10 دولارات، أي إن تعويض الخسارة اللاحقة بحصّة الأفراد من الفاتورة الحالية يتطلّب إنفاقاً حكومياً ضخماً ليس متوافراً في الأصل لدى الخزينة، وغير متوافر أيضاً لدى الصناديق التي تموّل من الأجراء وأصحاب العمل (الضمان)، إذ إن عملية التصحيح، تتطلّب زيادات هائلة بالتأكيد لا يرغب أصحاب العمل في اقتطاعها من أرباحهم بينما هم يعزّزون هذه الأرباح على حساب أجور العاملين لديهم.
النظام الصحي كان مليئاً بالتشوّهات بسبب تعدّدية الصناديق الضامنة ورغبة السياسات العامة في تعزيز أرباح مؤسسات القطاع الخاص، فضلاً عن أهدافها في إخضاع الأفراد لمنحهم التقديمات الصحية مقابل ولائهم السياسي... لكنه كان أفضل حالاً مما هو عليه اليوم. فهو بات مرتهناً بشكل كبير للتمويل الخارجي ولم تعد الزبائنيّة محليّة، بل باتت مرتبطة أكثر بالتمويل الآتي من الخارج، سواء ذلك الذي يأتي إلى الأفراد بصفتهم الشخصية من تحويلات ذويهم المسافرين، أو الآتي من منظمات ومؤسّسات خارجية تعاقدت مع أخرى محلية لتقديم المساعدات.