ما هو الحرمان الذي أصاب الأسر في السنوات الأربع الماضية، وكيف تكيّفت؟ سؤال يرد كثيراً في سياق المعاينة الحسّية في مراقبة المطاعم وحركة النقل وسواها. وهذه المعاينة تستنتج بشكل عشوائي، أن هناك أموالاً كبيرة في لبنان نراها تتدفّق في المطاعم والحفلات وزحمة السير، وأن الحرمان عاد ليكون بنسبة متواضعة كما كان في الماضي. لكنّ الواقع يشير إلى أنه في ظل غياب الكثير من المؤشرات والإحصاءات عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للقوى العاملة وأجورها والميزانيات التي تخصّصها لاستهلاكها في ظل التقلّب المستمرّ في سعر الصرف، لا يمكن الركون إلى معاينات عن بُعد أو من منظور النقيض. فمعاناة الأسر اليوم متصلة أكثر بالحاجات الأساسية وأبرزها الطبابة والاستشفاء، ثم الغذاء والطاقة والنقل. هذا يعني أن الحرمان لا يظهر إلى العلن بعكس ما هو متوقّع ومنتظر، بل إن الفقراء يعانون بصمت مطبق في منازلهم أو على أبواب المستشفيات أو في الاكتفاء بما هو أقلّ كلفة. فما يمكن أن يظهر بأنه زيادة في دخل الأسرة، قد يكون توقّفاً عن تعليم أحد الأبناء وضمّه قسراً إلى القوى العاملة لمساعدة الأسرة على تخطّي العجز بين مداخيلها ونفقاتها الأساسية والضرورية. المشهد على الطرقات وفي المطاعم كاذب حيث للثراء ألف صوت.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ثمّة بعض المؤشرات التي يمكن استخراجها من التقرير الأخير الصادر عن الإحصاء المركزي حول أوضاع العمال. يقول هذا التقرير إن معدلات المشاركة الاقتصادية بين عامي 2019 و2022 تدنّت بمعدل خمس نقاط مئوية، وإن معدل التشغيل تدنّى بنسبة كبيرة أيضاً. وقد تضاعفت معدلات البطالة العامة مرتين ونصف مرة خلال أربع سنوات، ومن ضمنها بطالة الشباب التي تضاعفت نحو مرتين، والبطالة الجزئية أكثر من ثلاث مرات ونصف مرة. العمل في القطاع غير النظامي ازداد بمعدل 13.1% نقطة مئوية، وانخفض عدد العاملين في القطاع النظامي، وتبيّن أن 58.4% من العاملين يعملون ما بين 30 ساعة و59 ساعة أسبوعياً... ثمة مجموعة واسعة من النتائج التي يمكن الاطّلاع عليها والتمعّن فيها، إلا أن كلّها تشير إلى حجم الخسائر في الدخل.
لكن ليست المشكلة الأساسية التي ينظر إليها العمال تتعلق بخسائر الأجر المباشرة، بل الخسائر التي طاولت ما يصطلح على تسميته الأجر الاجتماعي. فهذا الأجر يدخل فيه الدخل النقدي، بالإضافة إلى مداخيل أخرى أبرزها كلفة التغطية الصحية، وكلفة النقل، وكلفة التعليم. ففي السابق كان معظم العاملين من الأجراء المصرّح عنهم للضمان الاجتماعي، أو الموظفين في القطاع العام، أو العاملين في المهن الحرّة الإلزامية مثل المهندسين والأطباء والمحامين وسواهم، بالإضافة إلى الأساتذة في القطاعين العام والخاص، كانت لديهم تغطية صحية بمستويات مرتفعة نسبياً. الكل كان قادراً على الاستشفاء والطبابة بما يفوق الحدّ الأدنى الأساسي، والكلّ كان لديه دعم للتعليم يُراوِح بين الإعانة المقبولة والدعم الواسع. هذه المزايا خسرها أولاً العاملون في القطاع العام بعد إفلاس صناديق التغطية الصحية وشبه استحالة دعمها من الخزينة بوضعها الحالي. وفئات العاملين في القطاع العام تشمل العسكريين على اختلاف أنواعهم وصولاً إلى المعلمين في المدارس والأساتذة في الجامعة اللبنانية، والإداريين في الوزارات، وسائر العاملين في المؤسسات العامة بكل أشكالها وأنواعها. كذلك خسر العاملون في القطاع الخاص المصرّح عنهم للضمان الاجتماعي، إذ إن هؤلاء الذين يبلغ عددهم نحو 400 ألف لديهم أسر فقدت النسبة التي يغطّيها الضمان للاستشفاء بنسبة 90% وللطبابة بنسبة 85%. صحيح أنه لم يكن هناك احترام للتعرفات التي تُدفع على أساسها هذه النسب، إنما كانت هناك قدرة على تسديد الكلفة الإضافية. لكنّ الضمان اليوم ليس بإمكان أن يزيد تعرفات الاستشفاء والطبابة إلى 20% من الكلفة الفعلية المدفوعة في المستشفى، ولديه في صندوق التقاعد أكثر من 12 ألف مليار ليرة موظّفة في سندات الخزينة وكودائع لدى المصارف الخاصة، أي أن قيمتها كانت تفوق 8 مليارات دولار لكنّ قيمتها الفعلية تبلغ اليوم 120 مليون دولار، وهي في تناقص مستمر. الأمر مماثل لدى المهن الحرّة التي وظّفت الأموال لدى المصارف وهي الآن تحصل على جواب واحد: أموالكم محجوزة ولا يمكنكم سحبها.
هذه الخسائر هي الأكبر لأنها كانت تمثّل حصّة وازنة من الأجر السنوي، وربما هي الآن أكبر بكثير مما كانت عليه سابقاً ليس فقط بقيمتها المادية إنما أيضاً بكونها تأميناً ضدّ المستقبل وشمولية واسعة تصيب النسبة الكبرى من المجتمع اللبناني. لا يمكن تبرير التكيّف مع فقدان الأجر الاجتماعي.