تشوب موازنة 2022 عيوب عدّة. فالمسوّدات التي أعدّتها الحكومة في البداية، كانت غير مكتملة. وعندما أحيلت مسوّدة «كاملة» أخيراً إلى البرلمان، كان ينقصها الكثير من الأرقام، ما أدّى إلى تأجيل البتّ فيها لفترة طويلة. إذ كانت الموازنة معدّة على أساس أسعار صرف متعدّدة لتحصيل الضرائب، وهو عمل غير قانوني، ولا سيما أنها تفرض الأعباء، ضمنياً، على المكلفين بشكل استنسابي.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

وما زاد الطين بلّة، أن الضرائب تُحسب فعلياً بالعملة الأجنبية، بسعر الصرف الذي يحدّده وزير المالية وحاكم مصرف لبنان شهرياً، الأمر الذي يسلب البرلمان حقه في فرض الضرائب. وتخصّص الموازنة 17% من النفقات كاحتياط، ما يشير إلى ضعف واضح في تخصيص الموارد، ولا سيما أنها مخصّصة لتغطية الأشهر الثلاثة المتبقية من العام فقط. حتى أنه لم يتم تسجيل بعض بنود الإيرادات من وزارتي الأشغال العامة والاتصالات (أضيفت في الجلسة الأخيرة قبل ساعات من إقرار الموازنة). أخيراً، وليس على سبيل الحصر، لم يكن وزير الطاقة والمياه يعلم أنه تم تخصيص 5 مليارات ليرة لبنانية للوزارة التي يشرف عليها.

700

هو عدد سلفات الخزينة التي وافق عليها مجلس النواب بين عامَي 1992 و2015 ومنها 240 بين عامَي 2011 و2012


إن مثل هذه الممارسات الخاطئة دليل على مشكلة أعمق تتعلق بدور ومسؤوليات مؤسّسات الدولة المكلّفة بإعداد الموازنة والموافقة عليها وتنفيذها وتقييمها. في نهاية الأمر الموازنة ليست أداة محاسبة، بل هي وثيقة سياسية تحدّد أولويات الحكومة ووسائل تمويلها. وبالتالي، فإن أي موازنة ينبغي صياغتها والموافقة عليها كجزء من عملية تتفاعل فيها الجهات الفاعلة الرئيسية - بما في ذلك وزارة المالية، والوزارات التنفيذية، ومجلس الوزراء، ولجنة المال والموازنة النيابية، والبرلمان، والهيئات الرقابية- يتفاعلون ويتخذون القرارات وفقاً للقواعد والقوانين المحددة.
لقد عمل القادة السياسيون على اختطاف هذه العملية لسنوات عديدة، وأفسدوا المؤسّسات وفرضوا هيمنتهم على موارد الدولة. لتحقيق هذه الغاية، استخدم السياسيون ثلاث استراتيجيات؛ أولاً، التسلّح باتفاق الطائف الذي أعاد توزيع السلطة التنفيذية من رئيس الجمهوريّة إلى مجلس الوزراء (حجَزَ جميع زعماء الطوائف مقاعدهم)، ويخصّص القادة السياسيون موارد الدولة والريع لأنفسهم وللمقربين. ثانياً، بينما يتم إلقاء اللوم غالباً على السياسة الطائفية في تخصيص موارد الدولة، فإن إعادة التوزيع التي صممها القادة السياسيون تتجاوز معتقداتهم وتخدم شركاءهم التجاريين وكذلك النخب الاقتصادية، على حساب الشرائح الأفقر من السكان. ثالثاً، لضمان فعالية هذه الاستراتيجيات، يقوّض القادة السياسيون جميع مؤسّسات الدولة التي يمكن أن تحاسبهم.

المحسوبية الطائفية
تتخذ السياسات الطائفية، التي تنطوي على توزيع الموارد بين زعماء الطوائف، أشكالاً وقنوات عدّة؛
- أولاً، بالنظر إلى نفقات الموازنة على مدار الثلاثين عاماً الماضية، امتصّ موظفو القطاع العام باستمرار 30% من الإنفاق. هذه بالدرجة الأولى، محصّلة ما قامت به الأحزاب من أجل توظيف مؤيديها. بالإضافة إلى توفير الوظائف مقابل الولاء السياسي، يقوم كبار موظفي القطاع العام بتوفير أو استنزاف الموارد العامة، من أجل مصلحة حلقات الزعيم.
- ثانياً، توزيع الموارد يأتي من خلال الأموال الخارجة عن الموازنة، أي غير المذكورة في الموازنة والتي يسيطر عليها القادة السياسيون. هذا هو الحال بشكل خاص في ما يتعلق بصندوق الجنوب وصندوق المهجرين ومجلس الإنماء والإعمار، إذ يخصّص لهم موارد وفقاً لتقديرات الزعيم الطائفي الذي يستحوذ على المؤسّسة ويوزّع عقوداً ضخمة على أزلامه. لذا فإن الاستثمارات في القطاع العام تشترط تحديد الحصص الطائفية لضمان «المناصفة»، متجاهلة تماماً الاحتياجات أو الأولويات التنموية.
- ثالثاً، توزيع الموارد يشمل المنظمات غير الحكومية التي تستفيد من تمويل الدولة عبر وزارة الشؤون الاجتماعية. يتم اختيار هذه المنظمات غير الحكومية على أساس طائفي وتقدم خدمات على نفس المنوال.

نظام ضريبي معطل
مع أن التوزيع الطائفي غير الفعال يدلّ على تآكل عملية وضع الموازنة وأحياناً عدم وجودها، إلا أنه لا يرسم الصورة الكاملة. فمن خلال معاينة مكوّنات موازنة 2022، نرى أن السياسات المالية قد صمّمت لتعزيز المكتسبات الاقتصادية في قطاعات معينة وبين صفوف الطبقات الأغنى في البلد. لنأخذ في الاعتبار أن 50% من الإيرادات يتم جمعها باستخدام الضرائب التنازلية غير المباشرة - على سبيل المثال ضريبة القيمة المضافة - التي يسهم فيها دافعو الضرائب الفقراء أكثر من الأغنياء وبشكل غير متناسب. الأنواع الأخرى من الضرائب التصاعدية، مثل الضرائب على الدخل والأرباح ومكاسب رأس المال هي تدفقات ثانوية، في حين أن الضريبة على الثروة لا تزال مرفوضة من قبل النخب السياسية، بما في ذلك في الدورة البرلمانية الأخيرة.

السياسات التي تحابي النخبة الطائفية والاقتصادية في البلاد تُكمّلها وتدعمها سياسات تمنع المحاسبة في إدارة موارد الدولة


بالإضافة إلى النظام الضريبي التنازلي، يسمح ضعف التحصيل الضريبي بتهرّب ضريبي سنوي يقدّر بنحو 5 مليارات دولار. يفيد هذا النظام، أولئك الذين لديهم علاقات كافية للتهرب من دفع الضرائب. وقد تم إضفاء الشرعية على التهرّب من خلال إعفاءات تعسّفية مُنحت لشركات أو قطاعات معينة من دون مبرر اقتصادي. يُعدّ عدد المرات التي يؤجل فيها تسديد الضريبة التي أقرت في الحكومة والبرلمان سنوياً، نموذجاً مثالياً لتآكل نظام تحصيل الإيرادات. في الواقع، زادت هذه التأجيلات بشكل كبير مع مرور الوقت، حيث بلغت ذروتها عند 34 تأجيل في عام 2021.
اختارت الحكومات المتعاقبة اقتراض الأموال بدلاً من فرض ضرائب تصاعدية لتمويل إنفاقها غير المسؤول. وبنتيجة ذلك، أصدرت الحكومات ديوناً بمعدلات فائدة مرتفعة بشكل غير مبرر من خلال إعطاء حاملي السندات - ولا سيما المصارف والأثرياء - عوائد فاحشة، ما أدّى إلى تركيز شديد للثروة بأيدي القلّة من خلال الأدوات التنازليّة لتوزيع الثروة. واستفاد الرأسماليون المقيمون وغير المقيمين داخل النظام المالي للدولة من معظم دفعات الفوائد على الديون، والتي بلغت نحو 86 مليار دولار بين عامَي 1992 و2019. حتى أن الحكومة أعفت حاملي سندات اليوروبوند من الضرائب على الفوائد التي حصّلوها. على الصعيد الاجتماعي، كان أكبر إنفاق اجتماعي في البلاد على الدعم، وتحديداً على أسعار الكهرباء من خلال دعم أسعار الوقود. إلى جانب دفع قطاع الكهرباء إلى الزوال، أفادت هذه الإعانات بشكل غير متناسب المستهلكين الكبار وكذلك مستوردي الوقود، وكان لها آثار إيجابية قليلة جداً على رفاهية الناس.

آليات ومسؤوليات الرقابة المتعثّرة
السياسات التي تحابي النخبة الطائفية والاقتصادية في البلاد تكملها وتدعمها سياسات تمنع المحاسبة في إدارة موارد الدولة. يتجلّى ضعف عملية المحاسبة المتعلقة بالموازنة بشكل لافت في حقيقة أن البرلمان فشل في إقرار موازنة لمدة 12 عاماً، من عام 2006 إلى عام 2017. أما في السنوات التي حصل فيها إقرار للموازنة، استغرق الأمر، معدل تأخير​ يبلغ أربعة أشهر (على وجه التحديد 113 يوماً) بعد الموعد النهائي الدستوري للمصادقة عليها. لم يتخلّى البرلمان عن دوره الرقابي في العملية فحسب، بل قام أيضاً بتطبيع الممارسة غير القانونية المتمثلة في عدم إقرار الموازنة من خلال الموافقة على نحو 700 سلفة للخزينة - ما سمح للحكومة بالإنفاق من عام 1992 إلى عام 2015 - تم إقرار 240 منها في عامَي 2011 و 2012 فقط. في الواقع، أصبح البرلمان ورئيسه جزءاً فعلياً من السلطة التنفيذية، منتهكين بذلك مبدأ الفصل بين السلطات.
لقد تم إضعاف الهيئات الرقابية الأخرى مثل ديوان المحاسبة، المكلف بمراجعة نفقات الدولة، عن قصد، من خلال تقويض قدرتها المالية والبشرية، على عكس الوزارات التنفيذية المكتظة بالموظفين. كما خسر ديوان المحاسبة أيضاً الكثير من صلاحياته في الموازنة بسبب الإنفاق من خارج الموازنة من خلال الصناديق الخاصة (الجنوب، والمهجرين، ومجلس الإنماء والإعمار)، والتي لا تخضع إلا لمراقبة ما بعد التدقيق والتي أصبحت مستحيلة بسبب قدرة ديوان المحاسبة المحدودة.
إن موازنة عام 2022 والعملية التي تم إقرارها بها ليست سوى دليل على مرض التجاوزات عند النخبة السياسية في لبنان، التي أفسدت عملية الموازنة المؤسساتية. هذا النظام الضعيف للحفاظ على النخبة لا يمكن أن ينتج حلولاً للأزمة الحالية، علي أي حال، هذا هو النظام ذاته الذي يقع في صميم الكارثة الحالية في لبنان.

*نُشر هذا المقال باللغة الأجنبية على موقع thepolicyinitiative.org في 12 تشرين الأوّل 2022