يعيش لبنان، حالياً، أزمة حادّة تهدّد أمنه الغذائي وتجعله مرتهناً في لقمة عيشه للخارج. هذه الأزمة المصيرية ناتجة من عجز القطاع الزراعي المحلي عن توفير المنتجات المكوّنة للغذاء، سواء على مستوى رغيف الخبز، أو على مستوى اللحم والحليب. ففي منتصف القرن الماضي، كانت الزراعة تسهم بنسبة 30% من الناتج المحلي، وتستوعب 50%من القوى العاملة في الريف، وتوفّر نصف حاجات السوق المحلية من الغذاء، أما اليوم فقد تحوّلت إلى قطاع هامشي لا يمثّل سوى 6% من الناتج المحلّي، ويعمل فيه 12% من القوى العاملة في الريف، ويوفّر ما بين 10% و15% من الحاجات الغذائية في السوق المحلية.
سيران كافيرلي ــ أذربيجان

تهميش متعمّد
تهميش الزراعة وتحجيم دورها الاقتصادي أتى بعد غياب الإدارة المشرفة على القطاع الزراعي. هذا «الغياب» أدّى إلى استباحة الأراضي الزراعية، وتحويلها إلى سلعة في المضاربات العقارية، واستخدامها لأغراض بعيدة عن إنتاج الغذاء. و«اجتياح» الباطون قضى على مساحات واسعة من بساتين الليمون التي كانت تزنّر مدن الساحل وتحميها من زحف رمول البحر عليها، فضلاً عن قيام مدن صناعية وتجارية على امتداد الطرق الرئيسية في الساحل وفي البقاع أيضاً. كذلك أدّت ظاهرة «الغياب» إلى استباحة الثروة المائية. فالمياه الجوفية تعرضت لهجمة شرسة وحُفرت آلاف الآبار في حرم الينابيع، وعلى امتداد المدن الساحلية. السحب الجائر للمياه من الآبار أدّى إلى نضوب بعض الينابيع مثل نبع العليق في بعلبك، ونبع الحمام في مرج الخيام، بينما في بيروت وعلى الساحل تداخلت مياه البحر المالحة لتلوّث معظم الآبار.

135

مليون دولار هي قيمة المردود المتوقع من تخصيص 3000 هكتار لزراعة الورود وتصديرها، و3000 هكتار للزراعات العضوية


الفكر المهيمن الذي عمل على ترسيخ ظاهرة «الغياب» ألغى أي فرصة لتطوير الزراعة في لبنان. فلم تصدر أي تشريعات تحمي الأراضي الزراعية أو تمنع التعدّي عليها واستخدامها لأغراض بعيدة عن إنتاج الغذاء، ولم يتم وضع أي خطّة زراعية شاملة تضع في رأس أولوياتها إنتاج الغذاء. كذلك، عمل هذا الفكر على تأخير تنفيذ مشاريع الري الكبرى التي أُنجزت دراساتها منذ أكثر من نصف قرن. كان يفترض بهذه المشاريع أن تروي مساحة تصل إلى 60 ألف هكتار تتوزّع بين مشروع ريّ الجنوب ومشروع ريّ البقاع، مشروع ريّ القاع ــــ الهرمل، ومشروع ريّ سهل عكار.
أدّى ذلك مع أسباب أخرى، إلى هجرة آلاف الفلاحين عن الأرض. فقد انخفض عدد الحيازات الزراعية، من نحو 300 ألف حيازة في منتصف القرن الماضي، إلى 169 ألف حيازة في إحصاء عام 2010، بينما أصبح عددها الآن نحو 97 ألف حيازة زراعية فقط. أيضاً، انخفضت مساحة الأراضي المزروعة خلال الفترة الزمنية نفسها بنسبة 70%، ولا سيما المساحات المخصّصة لزراعة القمح، فيما تحوّلت معظم الأراضي الخصبة إلى أراض مهملة متروكة تزيد مساحتها على أرض البور والمراعي الشاردة. لكن لم يكن ذلك كل ما قامت به الإدارة المشرفة على القطاع الزراعي، فبدلاً من الحماية والتطوير، عمدت هذه الإدارة إلى إلغاء بنك التسليف الزراعي، الذي كان يمدّ الفلاحين بقروض ميسّرة، وقامت بتقليص موازنة المشروع الأخضر الذي كان يهتم باستصلاح الأراضي الزراعية، إذ إن موازنة وزارة الزراعة لم تتجاوز أخيراً أكثر من 0.1% من الموازنة العامة.
وعلى صعيد الإنتاج الحيواني، سجلت قطعان الماشية الصغيرة (أغنام وماعز) تراجعاً مذهلاً في أعداد رؤوسها. فقد انخفض عددها من نحو 3 ملايين رأس غنم وماعز في عام 1950، إلى نحو 670 ألف رأس فقط، من الصنفين حالياً.

نحو «هولندا الشرق»
هكذا أصبح لبنان بلداً تابعاً للخارج في غذائه ولقمة عيشه. فهو يستورد حالياً نحو 85%من حاجاته من اللحم والحليب، ونحو 90%من حاجاته لرغيف الخبز. هو لبنان نفسه مع بقاعه الذي سمّي ذات يوم «أهراء روما»، لكنه يستطيع أن ينتج غذاءه إذا اعتمد الحلول الثلاثة الآتية:
ــــ العودة إلى تربية الأغنام والماعز. يستطيع لبنان بما لديه من مراعٍ طبيعية شاسعة وأراض مروية أو قابلة للري، أن يؤمّن العلف لستة ملايين رأس غنم عواسي، وماعز شامي. 3 ملايين منها، يربى في القطاع المروي، شرط تخصيص ثلث الأراضي المروية لزراعة العلف (الأخضر واليابس)، و3 ملايين رأس في القطاع البعلي، تستوعبها المراعي الواسعة الممتدة من تلال شبعا وراشيا، مروراً بجرود بعلبك، الهرمل، وصولاً إلى مرتفعات بشري وجبال عكار.

إن زراعة 3000 هكتار بالزهور والورود في المناطق الدافئة المحاذية للبحر وفي الهواء الطلق توفر للبنان مردوداً مادياً لا يقل عن 45 مليون دولار سنوياً


اخترنا تربية الحيوانات الصغيرة لأنها لا تحتاج إلى مساحات واسعة من الأراضي، ولأن لبنان لديه أصناف من غنم العواسي والماعز الشامي، عالية الإنتاج، ومتكيفة تماماً مع الطبيعة والمحيط الجغرافي، لكن هذا الاقتراح يتطلب تنفيذ مشاريع الري التي تأخّر تنفيذها، وتحسين المراعي الطبيعية في القطاع البعلي، وخاصة في موطنها الأصلي من شبعا وصولاً إلى جرود الهرمل، ثم جبال عكار. هذه القطعان المؤلفة من ستة ملايين رأس غنم وماعز كافية لتوفير حاجات لبنان من اللحم والحليب ومشتقاته.
ــــ زراعة 3000 هكتار بالزهور ونباتات الزينة. أي تحويل لبنان إلى «هولندا الشرق». لدى لبنان أراض واسعة تقع بين ساحل البحر وبارتفاع 350 متراً مربعاً، تسمح بإنتاج الزهور في الهواء الطلق، ويمكن أن تحتل مكان بساتين الحمضيات ذات المردود الضعيف (كماً ونوعاً). فما الذي يمنع لبنان الذي أطلق عليه يوماً اسم «سويسرا الشرق»، أن يصبح مستقبلاً «هولندا الشرق» ومشتلاً كبيراً لإنتاج الزهور والورود ونباتات الزينة؟ فبإمكانه أن يزود المحيط العربي وبعض الدول الأوروبية بالزهور والورود المنتجة في الهواء الطلق أو في الخيم البلاستيكية التي لا تحتاج إلى تدفئة شتاء أو تبريد صيفاً. هذه المواصفات تجعل الإنتاج اللبناني منافساً في الأسواق العربية والأجنبية. إن زراعة 3000 هكتار بالزهور والورود في المناطق الدافئة المحاذية للبحر وفي الهواء الطلق توفر للبنان مردوداً مادياً لا يقل عن 45 مليون دولار سنوياً على أساس أن الدونم الواحد من الزهور يوفّر إنتاجاً قيمته 1500دولار على الأقل.


ــــ تخصيص 3000 هكتار للزراعة العضوية. فالزراعة العضوية هي نظام إنتاجي يعتمد على آليات إيكولوجية وبيولوجية كبديل من استعمال الأسمدة الكيماوية والمبيدات. واحتل هذا النوع من الزراعة نحو 758 هكتاراً في لبنان في عام 2004، علماً بأنها أصبحت تشغل اليوم نحو 1500 هكتار. فمنذ 10 سنوات تستثمر شركة فرنسية بساتين تفاح واسعة في مرتفعات بشري وأنشأت على أطرافها مصنعاً لإنتاج عصير التفاح الذي يصدّر بكامله إلى فرنسا. لذا، ليست هناك حاجة للفت النظر إلى الفوائد الصحية لمنتجات الزراعة العضوية، بدليل الإقبال الشديد من ربات المنازل على شرائها بأسعار عالية وفي ظنّهنّ أنها تغني عن زيارة الطبيب. يمكن زراعة الخضار الورقية (خس)، والخضار ذات الثمار (بطيخ، بندورة...)، والأشجار المثمرة، وزراعات عضوية تتبع فيها الأساليب والطرق المعتمدة في هكذا زراعة في العالم. هذه المساحة المشغولة بالزراعات العضوية يمكن أن تؤمّن للبنان مردوداً سنوياً لا يقل عن 90 مليون دولار أميركي، وهي كافية لتغطية نفقات استيراد حاجات لبنان من القمح من الدول المصدرة له.
في الخلاصة، إن اقتناء 6 ملايين رأس من الماشية الصغيرة يوفر للبنان حاجاته من اللحم والحليب، بينما زراعة 3000 هكتار بالزهور ونباتات الزينة، وتخصيص 3000 هكتار للزراعات العضوية توفر للبنان مردوداً سنوياً يغطي وارداته من القمح. بهذه الحلول الثلاثة، بإمكان لبنان أن يحقق أمنه الغذائي.

* مهندس زراعي