تمر الساعات بطيئة مثقلة بالضجر في البيت المعزول في وسط بيروت، بعيداً عن صخب المدينة وحياتها. لا شرفة يخرج إليها دون إذن مرافقيه ولا "مقهى رصيف" يضيّع فيه ساعتين ولا عقاب صقر هنا ليسليه. حتى مصطفى علوش الذي كان يمكن أن يخفف قليلاً عنه اختار في هذه الحشرة الذهاب إلى ميشيغن، فلم يبقَ أمامه سوى محمد قباني ومحمد الحجار. يسمعهم يقولون إن الرئيس سعد الحريري في بيروت، لكنه يعلم أن الأمر ليس كذلك: هو في زاوية مقفرة، في بيت بارد، في غرفةٍ مراقَبة في بيروت. بيروت التي كان يسمع الأمراء السعوديين يتحدثون عنها ويحسدونه عليها غير هذا السجن. كل خطوط الاتصال مراقبة في بيروت، كان يقول والده. ويمكن شركات الانترنت أن ترصد كل كيلوبايت يستهلكها وصفحة يتصفحها، فيما يدقق عناصر الأمن بكل ساندويش يأكله ويشم مكوناته.
في الطائفة السنية طرفان يؤكدان قدرتهما على حماية مصالح السعودية من دون أن تدفع ريالاً واحداً
وحتى حين بلغ السأم ذروته ففتح الباب وخرج، وجد ستين مرافقاً يحيطونه من جميع الجهات ويمنعون المواطنين من الاقتراب أو التصوير. يريد أن يلتقط مئة أو ألف أو عشرة آلاف سلفي يومياً لكن الظروف لا تسمح، وهذا يحبطه. هو لا يعلم أنها لم تعد موضة مسلّية في بيروت. ما كاد الرجل يبتلع قصة إخراجه من السلطة حتى بدأت تتفاقم أزمته المالية؛ من لم يعش في حياته همّ تأمين الأجور لموظفيه في آخر الشهر، لا يمكن أن يفهم دائرة الضغط التي يدور فيها الحريري منذ ثلاث سنوات. يرى النحس يلاحقه. يحدثونه بأشياء كثيرة فيما همّه الوحيد عودة المال. يطلب ممن كانوا أشبه بالموظفين لديه سداد دين هنا وآخر هناك. فواتير طعام وتعليم واستشفاء ونقل وأجور موظفين. يطلب وهو اعتاد الأمر. لا يفاجئه أين أصبح كل من فؤاد السنيورة وسليم دياب وآل مكاري وبشير وبشرى عيتاني بقدر تفاجئه أين أصبح هو. عجزه المالي يعزز ثقة بعض المحسوبين عليه بقدرتهم على تجاوزه فيراهم عاجزاً يتفرعنون: واحد يكبر في الكلام وآخر يستقيل من الحكومة التي عينه فيها دون الرجوع إليه وثالث ينشغل في وزارته عنه.
حين عاد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى بيروت كان واثقاً، بحسب أحد المقربين إليه، من عدم وجود أي شيء يفعله في السعودية: منذ أكثر من عامين توقف الأمراء في ديوانياتهم عن معاملته كرئيس حكومة ومالت نظرات الإعجاب صوب الشماتة بإضاعته كل هذه الفرص، وما عاد جهاز الاستخبارات مهتماً بتشغيله، سواء في الملف السوري أو اللبناني، فيما لا يقدم وجوده أو عدمه شيئاً يخص شركة "سعودي أوجيه" التي تنتظر قرار الرياض بتأميمها في سياق معالجة المملكة لأزمتها المالية. ولا شك أنه كان يفضل الانتقال من السعودية إلى باريس أو لندن لا بيروت، إلا أن مجموعة مؤشرات أكدت للحريري أن السعودية ستبدأ ترتيب الوضع السياسي في الطائفة السنية في لبنان بمن حضر، فما كان منه إلا الحضور. ظنّ، يقول أحد المقربين منه، أنه قادر على تمرير تسوية سريعة تتيح له الفوز برئاسة مجلس الوزراء والعودة إلى المملكة بوصفه رئيس حكومة لبنان فتستقبله القصور وتعود أوضاع "سعودي أوجيه" إلى ما كانت عليه. ليست رئاسة الحكومة غاية بالنسبة إليه، إنما وسيلة ــ مجرد وسيلة ــ للعودة إلى القصر الملكي الذي أخرج أيضاً منه. بعض المحيطين به يتساءلون همساً إن كان التصعيد السعودي هدفه إرباك الحريري أكثر فأكثر. الرأي العام لا يبالي، يقول أحد هؤلاء القريبين، لكن السياسيين يبالون، وهم لاحظوا وجوده خارج دائرة القرار السعوديّ بالكامل، وعدم تبليغه بماهية القرار أسوة بدبلوماسيي المملكة وعدم امتلاكه مصدراً واحداً موثوقاً يبلغه بما يتحضر ليس في المملكة وحسب، بل خارج حدودها أيضاً. وهنا تنقسم الآراء بين من يقول إنه خارج التغطية السعودية بالكامل، ومن يعتبره أقرب إلى تنفيذ التوصيات الأميركية التسووية التي لم تيأس المملكة من إمكانية تعديلها بعد، ومن يراه وتسويته الرئاسية جزءاً من الخطة السعودية التي تعطي الأولوية لإحراج حزب الله عبر تحميله مسؤولية هز الاستقرار المالي وتعزيز نفوذ سمير جعجع لسحب البساط المسيحي من تحته.
لم يحقق أسير الوسط أي خرق في الملفات الرئيسية التي بين يديه منذ عودته

سياسياً، يجد الحريري بعد شهر على عودته الآفاق مقفلة، وهو يراوح مع تسويته مكانهما (ترشيح النائب سليمان فرنجية إلى الرئاسة) دون التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام، علماً أنها ليست مبادرة مجمدة كما يقنع أفرقاؤها أنفسهم إنما واحدة من مبادرات كثيرة متوفاة ــ قد ــ يعاد إحياء إحداها يوماً ما. ترتيب البيت السني تعثر سريعاً بعد استصعابه استقبال الرئيس نجيب ميقاتي وعدم إيجاد أي قواسم مشتركة مع الوزير السابق عبد الرحيم مراد، فيما الأمور أهون بكثير مع الوزير السابق فيصل كرامي. أما قوى 14 آذار فانتهت مبادرته تجاهها في احتفاليته الأولى بعد العودة، في ظل تمسك القوات اللبنانية بموقفها وخشية نواب كثر في 14 آذار على مستقبلهم السياسي من انعكاسات القانون الانتخابي الأكثري الذي يتمسك به الحريري. علماً أن مساعي الحريري الشكلية لـ"التمريك" على جعجع لا محاصرته جدياً اقتصرت على مزحة البيال وزيارة كل من بيت الكتائب وبيت الوزير الراحل إيلي سكاف، من دون أن يتضح ما إذا كان هناك تبادل أدوار مدروس بين الرجلين أو اختلاف جدي. أما حزبياً فحاول الحريري عقد مجموعة اجتماعات كان الهم المالي موضوعها الأساسي، فتقرر طي الملف الحزبي الآن وتجنيبه وجع الرأس. والوضع المالي بيّن أن انتقال الحريري إلى المناطق لعقد لقاءات حاشدة دون سؤال وجواب أفضل وأوفر بكثير من استقدام المؤيدين إلى منزله وإفساح المجال أمام المعاتبة اليومية والمساءلة. وهو كان يرغب بالانغماس في الانتخابات البلدية كفرصة استثنائية لعقد اللقاءات الموسعة والتسلي بالتفاصيل الصغيرة لتقطيع الوقت، إلا أن المحيطين به أقنعوه بأن مصلحته تقتضي البقاء بعيداً عن هذه الانتخابات باستثناء حيث يحصل توافق فتزور اللائحة التوافقية الحريري لنيل بركته. في ظل تركيز المحيطين به على تنظيم اللقاءات لرجال الأعمال وكبار التجار والصناعيين والمصرفيين لتشكيل نادي رجال أعمال، أسوة بأحزاب أخرى، يتيح للحريري سد المصاريف دون المس بثروته الخاصة. والواضح هنا أن وريث رفيق الحريري يواصل الفصل بين ثروته الخاصة وتكاليف العمل السياسي. وهو مستعد في هذا السياق أن ينتهي سياسياً بالكامل دون أن يمد يده إلى جيبه لأن السياسة في نظره تحتاج مالاً سعودياً سياسياً لا ماله الخاص، رغم وجود عدة أفرقاء غيره في الوسط السني يقولون علانية إنهم قادرون على حماية مصالح السعودية أكثر مما فعل الحريري بكثير، من دون أن تدفع المملكة ريالاً واحداً. ويقول أحد نواب المستقبل ممازحاً إن الحريري أشبه بمتسلق جبال تعثرت قدمه فعلق عند حافة منحدر شاهق، ورغم الخطر المحدق به بقي يعاند رافضاً الرد على زميله الذي يطلب منه إعطاءه يده لينقذه، في انتظار أن يقول له زميله خذ يدي. فالحريري لا يعطي أياً كانت الظروف، يأخذ فقط. وخلاصة من يواصلون زيارته تفيد بعدم امتلاكه حلولاً، وضياعه بين التصعيد السعودي وتهدئة مبادرته وملله من جدران بيته وتوتره الشديد من فراعنة تياره، إضافة إلى القلق الماليّ المتواصل. ويشير أحد أقدم أصدقاء آل الحريري إلى أن "الشيخ سعد" لا يثق بنفسه، ولا بمبادرته. فلو أن هذه الثقة توفّرت عنده، واقتنع بقدرته على الظفر مجدداً برئاسة الحكومة للعودة إلى السعودية كما عاد والده يوماً ما، لكان اندفع إلى المغامرة ببعض ماله الخاص باعتباره دَيناً سيستوفيه فور وصوله إلى السلطة. لكن ثقته المهزوزة بالمستقبل وعدم اقتناعه بحتمية عودته رئيساً للحكومة يدفعانه إلى صرف النظر وتقطيع الوقت، علّ السعودية أو أيّ دولة أخرى تكتشف حاجتها الماسة إليه.



الأبواب السعودية المفتوحة


منذ وصوله إلى لبنان، يتحدّث مقرّبون من الرئيس سعد الحريري عن حل أزمته المالية، من دون أن تظهر نتائج عملية لحل كهذا. أحد المقربين منه يجزم بأن جميع الأبواب فُتحت أمامه في السعودية، حيث اتخذت العائلة المالكة قراراً بـ»إعادة هيكلة» مشكلاته المالية والسياسية. وبحسب المصدر، فإن حكام الرياض لا يزالون ينظرون إلى الحريري بصفته «ابنهم»، في تذكير بعبارة «ولدنا سعد» التي كانت تُنسب إلى الملك السعودي السابق عبدالله بن عبد العزيز في وصفه للحريري. وتجزم مصادر على صلة برئيس تيار المستقبل بأن في محفظة الأخير الكثير من الممتلكات التي بإمكانه تسييلها لسد عجزه المالي، سواء في «إمبراطورية سعودي أوجيه»، أو في مؤسساته اللبنانية. لكن تبقى أسئلة أساسية تُطرح على المتحدثين، من دون أن يجدوا أجوبة عنها، وأكثرها بديهية: لماذا لم تظهر على الرئيس الحريري حتى الآن نتائج القرار السعودي المذكور؟ ولماذا لم يتخذ خطوات عملية لمعالجة أزمته؟
(الأخبار)