أصيبت هوليوود بالهلع هذا العام بسبب «افتقار التنوّع» في جوائز الأوسكار، التي أهملت الممثّلين السود في ترشيحاتها. مقدّم الاحتفال كريس روك ذكّر الجميع بأنّها ظاهرة قديمة، لكنّ السود كانوا مشغولين بأمور أكثر أهميةً، كالنضال لوقف قمعهم، والحصول على حق التصويت وما إلى ذلك. في الأربعينيات والخمسينيات، عرفت هوليوود بشاعة أخرى: اجتثاث الشيوعيين. في أميركا، لا بدّ من الهوس بعدوّ دائماً، سواءً حمل ختم الشيوعيين أو الإسلاميين أو حتى الاسكيمو. هذا البلد المعقّد، خرج منتصراً من الحرب العالمية الثانية، بالشراكة مع الاتحاد السوفياتي. ارتفعت أسهم الحزب الشيوعي، الذي كان ملجأ الكثير من فاقدي الأمل إثر الكساد الكبير عام 1930. حرب الطائرات والدبابات وضعت أوزارها، لتبدأ أخرى باردة بين الماردين المنتصرين. في هوليوود، حيث تعمل الاستوديوهات بلا توقف، لك أن تكون شيوعياً وثريّاً في آن. هذا حال الكاتب والسيناريست الأميركي دالتون ترامبو (1905 – 1976). الرجل لا يخفي ميوله اليسارية، فيما يقيم المآدب في منزله الفخم. هو مزيج خلّاق بين المتطرّف البروليتاري وصاحب المال، بين طهارة المسيح ومكر إبليس. غير أنّ الحائز «الجائزة الوطنيّة للكتاب» عام 1939 عن روايته المناهضة للحرب «جوني حصل على بندقيّة»، حالم مثالي بطبيعة الحال. يكتب نهايات سعيدة، لأنّه يؤمن بها فعلاً. ينتصر لشيوعية تتيح التحقق للفرد والعدالة للجميع. يقول لابنته «نيكي»: «أحبّ بلادنا. إنّها حكومة جيّدة. ولكن أي شيء جيّد، يمكن أن يصبح أفضل». هكذا، يبدو «ترامبو» في بيوغرافيا السينمائي الأميركي جاي روش (1957)، الذي يبتعد عن الكوميديا إثر عناوين شهيرة، مثل سلسلة «أوستن باوز» و«تعرّف على الأهل» (2000). السيناريو لجون ماك نامارا، عن كتاب لبروس كوك. «ترامبو» ليس العمل الأوّل عن المؤلّف الراحل. بيتر أسكين حقق وثائقياً بالاسم نفسه عام 2007. «دالتون» ظهر كشخصية في الروائي الطويل «واحد من الهوليوديين العشرة» (2000) لكارل فرانسيس، ثمّ في الروائي القصير «الشاهد 11» (2012) لشين ميتشل. أكثر من ذلك، ابنه كريستوفر ترامبو، أخرج عرضاً مسرحياً عام 2003، استناداً إلى رسائل والده. السبب هو إغراء تلك الحقبة، التي تقترح مزيجاً غنيّاً من الدراما والسياسة والحنين والإسقاط على الراهن. هكذا، رأينا وودي آلن في «الجبهة» (1976) لمارتن ريت، يقول لـ «لجنة الأنشطة غير الأميركيّة» في جلسة استماع: «اذهبوا جميعاً وضاجعوا أنفسكم». روبرت دي نيرو مخرج حائر بين خسارة المهنة والوشاية بالآخرين في «مذنب بالاشتباه» (1991). ديفيد ستراثيرن صحافي شرس في وجه السيناتور الشهير جوزيف مكارثي في «تصبحون على خير، وحظ سعيد» (2005) لجورج كلوني.
اللب تراجيدي صرف والقشر مرح، مع موسيقى جاز لطيفة

شريط روش يواكب العاصفة منذ البداية. «ترامبو» (بريان كرانستون) يعيش حياةً مثاليةً عام 1947. هو السيناريست الأغلى أجراً في هوليود، وبالتالي العالم. إلى جانبه، تبتسم زوجة محبّة هي «كليو» (ديان لاين)، وأمام ناظريه يلعب أطفال جميلون. لديه أصدقاء يؤمنون بالأفكار نفسها، يعملون في الإخراج والتمثيل والتأليف. بشكل متسارع، تنقلب الأمور رأساً على عقب. «تحالف الفيلم لحماية القيم الأميركيّة» مدججاً بأسماء مثل جون واين، وسام وود، يفتح النار على الشيوعيين في هوليوود. الكاتبة في «لوس أنجليس تايمز» هيدا هوبر (هيلين ميرين) تشنّ بروباغندا هستيريّة ضدّ ترامبو ورفاقه، على اعتبار أنّهم جزء من مخطط سوفياتي لتقويض الديمقراطيّة وتدمير البلاد. الكونغرس من خلال «لجنة الأنشطة غير الأميركيّة» برئاسة العضو جاي بارنيل توماس (جايمس دومونت)، يصعّد إلى مستوى المساءلة القانونيّة، متجاهلاً التعديل الدستوري الأول الذي يكفل حريّة الفكر والتعبير. «الهوليووديون العشرة» هم كبش الفداء. ترامبو إلى جانب تسعة آخرين، معظمهم من كتّاب السيناريو، يرسلون إلى السجن بتهمة ازدراء اللجنة. «ترامبو» يمضي 11 شهراً خلف القضبان، تحت رقم 7551. في الخارج، تُفتَح أبواب الجحيم على مصراعيها. هوس «الخطر الأحمر» يعشّش في الشوارع والبيوت: «هل أمّك هي أمّك؟» (بمعنى، قد يكون الشيوعي أحد أفراد عائلتك). «القائمة السوداء» تطول لتشمل آلاف الممنوعين من العمل في الصناعة. الحظر الإبداعي يتوّج سلّة من الضرائب العائلية والصحية والاجتماعية. يخرج ترامبو ليجد أفقاً مسدوداً. ماذا يفعل مَن لا يجيد سوى الكتابة؟ الاسم المستعار حل لا بأس به، للتكيّف مع العتم المحيط والضباب الكثيف والغرباء المتربّصين. الانخراط في أفلام الدرجة الثانية B – Movies، بداية لتدمير «القائمة السوداء» من الداخل. الأسلوب: سنوات من العمل لـ 18 ساعة في اليوم، انتظاراً للحظة المناسبة. النتيجة: عدد من النصوص، منها «عطلة رومان» (1953) لوليام ويلر و«الشجاع» (1956) لإرفنغ رابر، نال أوسكار أفضل سيناريو. في الحالتين، ذهب التمثال لفائزين مزيفين.
تأزيم «ترامبو» مفترق طرق، ومحرّض فعّال على التغيير. السجن يصنع قرار الاشتباك مع المنظومة. موت صديقه «آرلين هيرد» (لويس سي. ك) بالسرطان، يحفّر رغبته في كتابة أفلام جيّدة. الغليان العائلي، والاشتباك مع ابنته يدفعه إلى الهدوء والمطالبة بالأوسكارين. وسط كلّ ذلك، يدق كل من كيرك دوغلاس، وأوتو بريمنجر الباب، ليساعدا في إعادة الأمور إلى نصابها.
بريان كرانستون يتوهّج بأداء مدهش. الممثّل الذي خرج من الأدوار الصغيرة، ولمع في مسلسل Breaking Bad، يقدّم «دالتون ترامبو» من لحم ودم، من دون الوقوع في الكليشيه. لن نتخيّل سواه جالساً في البانيو، مع كأس ويسكي في يد، وسيجارة ملتصقة بمبسم خشبي في الأخرى. ديان لاين لافتة بدور الزوجة الصابرة الحريصة على العائلة. جون غودمان صاحب حضور محبّب دائماً. للمرّة الثالثة خلال سنوات قليلة، يلعب المنتج بذيء اللسان، بعد «الفنان» (2011) لميشيل هازانافيسوس و«آرغو» (2012) لبين آفليك. عموماً، كل محيط ترامبو يتفاعل لخدمته لا أكثر، رغم تأثير ذلك على بناء بعض الشخصيات.
«ترامبو» شريط شجاع عن الحريّة وأهميّة الفرد، عن العائلة والصداقة، عن الخيارات الأخلاقية على المحك. اللب تراجيدي صرف. القشر مرح، مع موسيقى جاز لطيفة. بذكاء، ينجو جاي روش من الميلودراما والتنميط. سينمائياً، تستمرّ أميركا في نكئ الجراح، ونبش الحقب المظلمة. تأسيس «الأمّة» على العنف والدم، وتاريخ العبودية، وتفشّي العصابات، وتوحّش الرأسماليّة، أمثلة بارزة على ذلك.

* «ترامبو»: صالات «غرند سينما» (01/209109)، أمبير (1269)، «فوكس» (01/285582)